شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في مشهد يزداد فيه الظلام السياسي عمقاً، يطل الفريق سلطان السامعي من قلب صنعاء ليُطلق شهادة نارية تعري الواقع المرير للسلطة اليمنية .
في حديثه الصريح والجريء، يكشف السامعي كيف تحول المجلس السياسي إلى مؤسسة بلا صلاحيات، والدولة إلى كيان بلا قرار، وسط موجة من الانقسامات والفساد والشللية التي تهدد بقاء الوطن نفسه .
شهادة تعكس أوجاع الداخل، وتضع القارئ أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها .
وفي مساءٍ يمنيٍّ ملبَّدٍ بالشكوك والخيبات، انبعث صوت الفريق سلطان السامعي من شاشة قناة “الساحات” لا كصدىٍ لسلطة واقع مألوفة، بل كخرق نادر للصمت الرسمي، وكسردية متمرّدة تنبش المسكوت عنه في أعماق الحكم .
لم يكن ظهوره مجرد إطلالة إعلامية عابرة، بل مرافعة وطنية جريئة من داخل دهاليز السلطة نفسها، أقرب ما تكون إلى اعتراف رجل عاقل وصل إلى حافة اليقين بأن سفينة الحكم تمخر عباب الغرق، لا القيادة .
لم يتحدث السامعي بلغة المصالح ولا هتافات الاصطفاف، بل بشجاعة رجل تحرّر من الحسابات الضيقة، وهو يُحاكم المشهد من موقع العارف لا الغاضب، ويشهّر بما تبقّى من سلطة تتآكلها الكواليس، وتديرها الظلال .
كانت كلماته كاشفة، صادمة، ومشحونة بثقل الانهيار الآتي إن لم يُتدارك الأمر بعقلٍ وطنيّ جامع .
من قلب السلطة :
السامعي شاهد على خراب الداخل
أن ينطق أحد أعضاء هرم سلطة الأمر الواقع، بما يوازي شهادة ضد النظام الذي ينتمي إليه، فتلك لحظة لا تتكرّر إلا حين تبلغ السلطة، أقصى درجات الإنكار .
هكذا بدا الفريق سلطان السامعي، لا كمنشقّ بالمعنى الكلاسيكي، بل كشاهد نادر من داخل بنية الحكم، يُعلن – بوضوح لا يحتمل التأويل – أن ما يُدار في الظاهر ليس سوى واجهة خاوية، بينما القرار الحقيقي ينساب في الظلال، خارج الأطر الدستورية والقانونية، وخارج أي مؤسسة معترف بها .
حين وصف المجلس السياسي الأعلى – الذي هو عضو فيه – بأنه “مجلس بلا صلاحيات”، لم يكن يستجدي الشفقة ولا يعزف لحن المعارضة، بل كان يُدين بنية الحكم العميقة التي باتت عاجزة عن إنتاج الدولة، مكتفيةً بإدارة النفوذ وتدوير الولاءات .
لقد أجهز بكلماته على آخر ما تبقّى من شرعية شكلية، كاشفًا عن منظومة تسير وفق إيقاع غامض، تُغلفه الشعارات وتُديره المصالح .
ولأن الصدع لا يقف عند الشكل، فجّر السامعي الحقيقة الأعظم :
أن صنعاء اليوم تعيش اختراقًا أمنيًا واستخباراتيًا يفوق ما عرفته طهران أو حزب الله في أقسى ظروفهما .
إنها ليست مبالغة، بل جرس إنذار من داخل القيادة نفسها، يعلن أن الجسم الحاكم – بما فيه أدواته الأمنية – أصبح نهبًا للاختراقات والتجاذبات، مما يضع البلاد على حافة هاوية استراتيجية وأمنية لا قرار لها .
150 مليار دولار …
وأين الشعب ؟
حين أفصح الفريق سلطان السامعي عن هروب ما يفوق 150 مليار دولار من رؤوس الأموال الوطنية، غادرت البلد بسبب مضايقات سلطة الأمر الواقع، لم يكن يطلق اتهامًا عابرًا في لحظة انفعال، بل كان يكشف عن قلب المعادلة الاقتصادية التي نُهبت من داخلها الدولة وبِيع فيها الشعب بالمزاد السياسي المغلق .
ليست مجرد أرقام مهولة تثير الدهشة، بل هي علامة دامغة على جريمة اقتصادية مركّبة :
وتطفيش منظم لرأس المال الوطني، ونهب لمقدّرات وطن يعاني الحصار والجوع وانهيار الخدمات، فيما تُبنى خلف الستار شبكات احتكار، وممالك مالية تديرها مراكز نفوذ تتغذى على صمت المؤسسات وانهيار الرقابة .
في بلد يتضور فيه الملايين، كانت شهادة السامعي صدمة مزدوجة :
فضحٌ لحجم النهب، وفضحٌ لأدواته .
إذ أشار بوضوح إلى قرارات تصدرها وزارة المالية ووزارة الصناعة لا لحماية الاقتصاد، بل لطرد رأس المال الوطني، وإزاحة التجار الوطنيين لصالح شبكة مصالح ضيقة، تُراكم الثروة لا على قاعدة الإنتاج أو القانون، بل عبر المحاباة والإقصاء وخلق اقتصاد موازٍ يخدم السلطة لا الشعب .
إنها ليست مجرد كارثة اقتصادية، بل تفكيك منهجي للطبقة الوسطى، وتجريفٌ لبنية المجتمع من أسفل، وشرعنةٌ لاحتلال الدولة من الداخل عبر الأدوات المالية ذاتها التي كان يُفترض أن تحميها .
هل وصل مشروع من يسمون أنفسهم
“ أنصار الله ” إلى سقفه ؟
منذ 2015، تماهت شعارات “الصمود” و”السيادة” و”العدالة” في صنعاء مع مشروع من يسمون أنفسهم “أنصار الله”، حتى باتت تلك المفردات جزءًا من لغة الحكم اليومية .
لكن في مقابلة استثنائية، طرح الفريق سلطان السامعي سؤالًا وجوديًا لا يجرؤ كثيرون على مقاربته من داخل السلطة :
هل ما زال هذا المشروع يملك مقوّمات الحياة ؟ أم أنه بلغ سقفه التاريخي، وبدأ في التآكل من داخله ؟
لم يكن السؤال تنظيريًا، بل شهادة حيّة من داخل بنيته، من رجلٍ يُدرك أن المركب السياسي الذي تقوده الجماعة يتعرّض لشقوق خطيرة في عارضته الهيكلية، وأن العدو الحقيقي لم يعد في متاريس الخارج، بل يتسلّل من الداخل بثياب الولاء، تحت رايات المحسوبية، وهيمنة الجناح الاقتصادي المتنفذ، وتلاشي المؤسسية التي كانت في يومٍ ما تُمنّى بأنها النواة الأولى للدولة .
قالها السامعي دون مواربة :
لم تعد هناك دولة، بل سلطة عاجزة عن محاسبة الفاسدين، غارقة في تنازع المراكز، ومرتهنة لمعادلات القوة لا للقانون .
وإذا كان الحصار الخارجي والعدوان قد فُرضا بقوة السلاح، كما يقول، فإن الشلل الداخلي مفروض بإرادة النخبة الحاكمة نفسها، التي آثرت البقاء في قوقعة الشعارات على الانفتاح نحو مشروع وطني جامع .
في لحظة كهذه، لا يبدو السؤال عن “ العدو” منطقيًا، فالسؤال الأعمق هو :
من يخاف من الدولة ؟ ومن يستفيد من بقائها وهمًا بلا جوهر ؟
السامعي يعيد طرح …
المصالحة الوطنية كطوق نجاة
لم تكن خرائط الكلمات التي رسمها الفريق سلطان السامعي في مقابلته مجرّد هجاء لحكم أو نحيب على أطلال دولة تآكلت، بل كانت محاولة نادرة لاستدعاء بوصلة الخلاص الوطني، وسط عاصفة الانهيارات .
ففي خضم التشظي السياسي والانغلاق العقائدي، أعاد الرجل إلى السطح مصطلحًا كاد يُمحى من القاموس الرسمي :
المصالحة الوطنية الشاملة.
لم يطرحها كشعار، بل كضرورة تاريخية، كخيار وحيد متبقٍ قبل أن تبتلع الأزمة كل ما تبقّى من نسيج الدولة . فالوطن – كما يفهمه السامعي – لم يعد يحتمل التمترس خلف جدران الهُويات الجزئية، ولا الاستئثار السلطوي، ولا الانقسام المناطقـي والطائفي الذي تُغذّيه صراعات النفوذ .
لقد دعا إلى مشروع سياسي جامع، لا يُقصي أحدًا، بل يؤسس لدولة يُعاد فيها توزيع السلطة والثروة بعدالة، لا عبر المحاصصة، بل من خلال عقد وطني جديد يرتكز على قيم الشراكة والمواطنة والمساءلة .
في هذه الدعوة، بدا السامعي وكأنه ينتزع الوعي من تحت أنقاض الخنادق، مراهناً على ما تبقّى من العقل السياسي في الضفة الأخرى، ومُدركًا في آنٍ واحد أن الهروب من الاستحقاق الوطني لن يولّد إلا دورة جديدة من العنف والارتهان .
إنها دعوة لا تشبه المناشدات المعتادة، ولا تُطلق من منابر التذمّر الهامشية، بل تصدر من قلب سلطة الأمر الواقع نفسها، من رجلٍ تمرّس دهاليز القرار، ويدرك تضاريس الانسداد من الداخل لا من الخارج .
في لحظة بلغ فيها العقل السياسي حدّ التكلّس، وانغلق الأفق على جدران الطموحات الصغيرة، ارتفعت نبرة السامعي كمحاولة نادرة لكسر الحلقة المفرغة، والعودة إلى أصل السؤال اليمني :
كيف نُنقذ الدولة قبل أن تبتلعها مراكز النفوذ ؟
ربما لا تجد هذه الدعوة أصداءها اليوم وسط ضجيج السلاح وصراخ الشعارات، لكنها ستبقى — دون ريب — وصيّة وطنية استباقية، سُطّرت بوعي رجل من داخل الجدار، أدرك أن التاريخ لا يغفر للذين تجاهلوا نداء العقل حين أتيحت لهم الفرصة الأخيرة .
إنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن تكتمل دورة الانفجار، وينهار السقف على رؤوس الجميع .
الحكم على أحمد علي :
تصفية سياسية أم قرار طائش ؟
في منعطف بدا فيه الوطن بأمسّ الحاجة إلى ترميم الجسور لا نسفها، أطلق الفريق سلطان السامعي موقفًا لافتًا في وجه واحدة من أكثر القضايا حساسيةً في المشهد اليمني :
الحكم الصادر عن سلطات صنعاء بإعدام العميد أحمد علي عبدالله صالح، نجل الرئيس والزعيم اليمني الراحل . لم يتحدث الرجل من موقع المجاملة، ولا من موقع الاصطفاف، بل من منطلقٍ استراتيجي يدرك خطورة اللحظة، وعقم الحسابات الصغيرة حين تُدار السلطة بمنطق الغلبة لا الحكمة .
وصف الحكم بأنه “ غير حكيم ” و” توقيتُه كارثي”، محذّرًا من أن هذا النوع من القرارات لا يخدم سوى توسيع هوة الانقسام، وتكريس عقلية التصفية السياسية التي تُقوّض أي أمل في تسوية وطنية مستقبلية. فبدل أن يكون القضاء وسيلة لتحقيق العدالة، بدا – في نظر السامعي – وكأنه أداة في يد الرغبة الانتقامية، تُدار بوعي ضيّق يبدّد الفرص ولا يصنعها .
لقد كان في موقفه هذا، يدق ناقوس الخطر :
أن المشروع الذي لا يحتمل التعدد، ولا يغفر للخلاف، ولا يستوعب الخصوم السياسيين – حتى أولئك الذين غابوا عن المشهد – هو مشروع محكوم بالانكماش لا الاتساع، وبالفشل لا بالاستقرار .
إنها ليست مرافعة عن شخص، بل تحذير من مآل، وموقف ينتمي إلى منطق الدولة، لا إلى شهوة الثأر . فحين يُجرَّم الخصم بحكم سياسي لا توازن فيه، تُغتال إمكانيات المصالحة من جذورها، ويُبعث برسالة كارثية مفادها أن الوطن قد صار حكراً على صوتٍ واحد .
الخلاصة :
شهادة السامعي…
هل تُسمع قبل الانهيار الكامل ؟
في زمنٍ يُدار فيه الوطن بمنطق القوة لا الدولة، ويُقيَّم الرجال بولائهم لا بكفاءتهم، جاءت شهادة الفريق أو الشيخ سلطان السامعي لا لتُضيف صوتاً آخر إلى ضجيج الاعتراض، بل لتؤسس – بوعي رجل من داخل النظام – نقطة انعطاف نادرة في سردية الحكم، تُجبر الجميع على التحديق في مرآة الحقيقة، ولو لوهلة .
ما قاله لم يكن تحليلاً سياسياً بارداً، ولا شكوى شخصية متأخرة، بل كان صرخة رجل دولة يراقب من الداخل أفول المشروع، وانفلات أدواته، وتحوّل مؤسسات الحكم إلى جزر مغلقة تتنازع الغنيمة على حساب الفكرة الوطنية الكبرى .
لقد قدّم السامعي، عن وعي كامل، مسحًا استراتيجيًا للحظة اليمنية الراهنة :
سلطة بلا قرار، اقتصاد يُدار بشبكات خفية، أمن مخترق، جهاز قضائي مسيّس، وطبقة سياسية مأزومة ترفض المصالحة لأنها تخاف من الاعتراف، وترفض الإصلاح لأنه يُهدد امتيازاتها .
وفي خضم كل ذلك، يُختزل الوطن في خندق، والمستقبل في ولاء، والمخالف في خيانة .
إن الصمت عن شهادة بهذا العمق هو تواطؤٌ مع الانهيار، وليس حيادًا .
وإن تجاهلها من داخل السلطة ليس سوى إعلان غير مكتوب بأن البقاء أهم من البنيان، وأن الاستمرار في الوهم أولى من المجازفة بالتصحيح .
في النهاية، قد تمر كلمات السامعي في أذن النخبة مرور العابر، لكن التاريخ – بما هو ذاكرة الشعوب – سيسجّل له أنه نطق بما يجب أن يُقال، لا حين كان من السهل أن يُقال، بل حين كان الصمت هو العملة الرائجة، والكذب هو ثمن البقاء .
السؤال الآن لم يعد :
ماذا قال السامعي ؟
بل :
من المتبقّي ليُجيب ؟
0 Comment