شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
عبدالوهاب محمود … المهندس الهادئ للسياسات اليمنية بين الاقتصاد والبرلمان
في زمنٍ تبتذل فيه الشعارات … ينهض الاستثناء .
حين تعكّرت فيه المقاييس، واختلط فيه التصدّر بالتصنّع، والسلطة بالضجيج، يظل بعض الرجال كالأوتاد المغروسة في أرض الدولة :
لا تلتفت للصخب، ولا تنكسر أمام العابرين. رجالٌ لا تُعرّفهم المناصب، بل تُضيء المناصب حين يمرّون بها .
من هذا الطراز النادر، ينهض اسم الدكتور عبدالوهاب محمود عبد الحميد، لا كـ “مُجرّد برلماني مخضرم” أو “وجه مألوف في سجل الحكومات”، بل كـ حالة فكرية ـ سيادية ـ أخلاقية عَبَرَت المشهد اليمني دون أن تُبتلع فيه، وشكّلت ملمحًا فريدًا لرجل الدولة كما يجب أن يكون .
لم يكن عبدالوهاب محمود صدىً لصوت سائد، بل عقلًا مؤسّسًا يمتلك قدرة نادرة على تحويل الاقتصاد من توازنات أوراق إلى سيادة قرار، وتحويل البرلمان من حلبة صراع إلى منبر تفكّر .
لم يتعامل مع الدولة بوصفها إدارة، بل مشروعًا ثقافيًا وتاريخيًا ينبغي حمايته من الاختزال والارتهان .
ولأن زمنه كان زمن التحوّلات الكبرى، فقد خاضها لا بلهجة المنتصرين ولا بخطاب المزايدين، بل بهدوء الحكماء، وصلابة العارفين، وأناقة الذين ينتمون إلى الفكرة قبل الكرسي، وإلى الوطن قبل اللافتة .
من الريف إلى الدولة :
حين تولد الفكرة من التراب
وُلد عبدالوهاب محمود في قلب محافظة تعز، في بيئة لم تكن ترفد أبناءها بالمناصب، بل تغرس فيهم معنى الكفاح. هناك، في جغرافيا محفورة بالكدّ والعِلم، بدأت ملامح رجلٍ سيحمل لاحقًا مشروع دولة، لا مشروع وظيفة .
اختار أن يدرس الاقتصاد، لا لأن الأرقام تُغريه، بل لأن الكرامة الوطنية لا تتحقق إلا عندما تستغني الدولة عن المِنح، وتُحسن إدارة الثروة والمعونة كأدوات سيادة لا ارتهان .
وحين نال الدكتوراه في الاقتصاد الدولي، لم يعد إلى بلاده بوصفه “ خبيرًا ”، بل كـ قوة فكرية تدرك أن الاقتصاد، في بلدٍ هشّ كاليمن، ليس رفاهية، بل أمن قومي .
عاد لا ليحاضر، بل ليبدأ صوغ اللبنات الأولى لدولة ما بعد الإمامة، وما قبل الفوضى .
تكنوقراط بمزاج قومي :
الاقتصاد كفنّ للسيادة
في خضمّ السبعينيات، حين كان اليمن يتلمّس خطواته خارج عباءة الماضي، أُسندت إلى عبدالوهاب محمود وزارة الاقتصاد .
لم يكن آنذاك من بين أولئك الذين يُغرمون ببريق المؤتمرات أو يستسهلون ترديد وصفات الصناديق الدولية، بل كان يرى أن “الاقتصاد الوطني لا يُدار بالأرقام المجردة، بل بعين السياسيّ الذي يعرف أين يبدأ الوطن وأين ينتهي .”
قاد الوزارة كمن يقود معركة استراتيجية :
دعم القطاع الزراعي لا كخدمة للفلاح، بل كتحصين للقرار السيادي .
شجّع الانفتاح التجاري، لكن بشروط يمنية لا بإملاءات خارجية .
رفض الإذعان لاقتصاد الريع، وآمن أن الدولة التي لا تصنع خبزها، لا تستطيع حماية قرارها .
ولأن عبدالوهاب كان ممن يفهمون أن “الموازنة العامة ليست مجرد جدول، بل مرآة فلسفة الحكم”، فقد وضع أولى لبنات ما عرف لاحقًا بالتحول التدريجي من دولة الإغاثة إلى دولة الإنتاج، بكل ما في العبارة من طموح ووعورة .
برلماني بتوقيع الدولة لا الحزب
حين دخل عبدالوهاب محمود قاعة البرلمان، لم يكن وافدًا جديدًا إلى السياسة، بل كان رجل دولةٍ يعرف الفرق بين المنصة والوظيفة، بين الرأي والموقف، بين المعارضة والمقامرة .
تزامنت سنواته البرلمانية مع أكثر الفصول اضطرابًا في التاريخ اليمني الحديث :
من التعددية السياسية التي وُلدت متعثّرة بعد 1990، إلى حرب 1994 بما حملته من صدام الهويات، ثم الموجات المتعاقبة من الاستقطاب الحزبي والتشظّي الاجتماعي .
ومع ذلك، ظلّ عبدالوهاب ثابتًا كميزان العدالة في غرفةٍ تتنازعها الأهواء .
لثلاث دورات متتالية، احتفظ بموقعه كنائب لرئيس مجلس النواب، لا لأن حزبه فرضه، بل لأن الأطياف جميعها – من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار – رأت فيه نقطة التقاء لا نقطة صراع .
لم يكن الأعلى صوتًا، بل الأعمق أثرًا. لم يُغْرِه التصفيق، ولم يُحرّكه الغضب .
كان يُنصت كما يُفكّر القادة :
بعين على النص، وأخرى على التاريخ .
ولأن السيادة عنده لم تكن قابلة للمساومة، ظلّ في وجدان زملائه “الرجل الذي لا يُستفز، ولا يُبتز، ولا يُبتلع”، تمامًا كما لا تُبتلع الجبال .
البعثي الذي لم يتأدلج
في زمنٍ استُهلكت فيه الشعارات وتحجّرت فيه الأيديولوجيات، كان عبدالوهاب محمود بعثيًا بنكهة الدولة، لا بنزعة الشعار .
شغل موقع أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي – قطر اليمن، لكنه لم يكن أسيرًا لعبارات الخمسينيات، ولا سجينًا لعقيدة تحوّلت عند كثيرين إلى جدران فكرية مغلقة .
لقد جسّد ما يمكن تسميته بـ “البعث العقلاني” :
قوميّ في انتمائه الثقافي، يمنيّ في ولائه السياسي، وواقعيّ في مقارباته التنفيذية .
لم يُقِم جدارًا بينه وبين الإسلاميين، بل جلس معهم بنديّة المتكافئ لا بمرارة المختلف .
ولم يصادم اليساريين، بل خاطبهم بلغة رجلٍ يعرف أن المشروع الوطني لا يُبنى بالتنافي، بل بالتكامل .
كان يرى أن اليمن ليست حلبة أيديولوجية، بل كيان هشّ يحتاج إلى من يرفعه لا من يمزّقه بالشعارات .
لذلك لم يكن غريبًا أن يحترمه من لا يشاركه الخط الفكري، ويأتمنه من يخالفه في الرؤية، لأنه اختار منذ البداية أن يكون ابن الدولة لا ابن اللافتة .
عند رحيله …
تَيتّمت الحكمة
في أغسطس 2021، لم تودّع اليمن مجرد برلماني سابق أو وزير أسبق .
كانت تودّع واحدًا من آخر الأصوات الراجحة التي عرفت متى تتكلم، ومتى تَصمُت، ومتى تصنع الفارق بالصمت نفسه .
رحل عبدالوهاب محمود كما عاش :
بلا صخب، بلا تصفية حسابات، وبلا شعارات جنائزية . لكن وقع الغياب كان مزلزلًا .
نعاه رفاقه في حزب البعث بكلمات مُفعمة بالفقد، ورثاه خصومه السياسيون لا بلياقة المجاملة، بل باعتراف نادرٍ بأن الرجل كان أعدل من أن يُختزل، وأرقى من أن يُستثنى من الإجماع الوطني .
في لحظة شديدة الانكسار من عمر اليمن، بدا رحيله وكأنه فقدانٌ لصوت الحكمة حين تكون الحكمة هي ما يُفتقَد فعلًا .
غابت تلك الشخصية التي كانت، في كل مرحلة تشظٍّ، تمثّل نقطة توازن، وفي كل نزاع تمثل فرصة للفهم لا الوقيعة .
لقد غادرنا عبدالوهاب، تاركًا خلفه فراغًا لا يملؤه البيان، بل تعيد ملأه فقط الذاكرة الحيّة لرجلٍ اختار أن يكون خيطًا رابطًا في نسيجٍ كاد يتمزق .
كلمة أخيرة في حق مناضل وطني جسور …
شريفٍ نزيه
في زمنٍ غاب فيه التدرّج، وتصاعد فيه الضجيج إلى مرتبة الكفاءة، وارتقى الطارئون لا بإنجازاتهم بل بسطوة اللحظة، ظلّ عبدالوهاب محمود استثناءً مهيبًا :
ذاكرةً ناصعة من زمنٍ كان يُصنع فيه القرار في العقول لا في الكواليس، وتُخاض فيه المعارك بالكلمة لا بالولاء .
لم يكن الرجل من أولئك الذين يصطفّون عند أبواب التصفيق، ولا من الذين يملأون المجالس بالخطب المجوّفة .
كان يعمل بصمت المتمرّس، ويتقدّم بحكمة المجرّب، وينسحب بكرامة الكبار .
رجلٌ لا تبتذله اللحظة، ولا تُغريه الأضواء، ولا تسقطه الخصومات .
ولأنه لم يقايض النزاهة بالسلطة، ولا استبدل الشرف بالصفقة، خرج من كل المراحل محتفظًا ببياض سيرته، ونقاء مواقفه، وهيبة اسمه .
إن سيرة عبدالوهاب محمود لا تُقرأ كحكاية سياسي عابر، بل كدرس ممتدّ في كيف تكون الدولة أكبر من الأيديولوجيا، وأعمق من الولاءات، وأبقى من العابرين .
رحماتٌ يا صديقي، لا تُعدّ، ولا تُحدّ، تليق برجلٍ لم يبع صوته، ولم يبدّد حكمته، رجلٌ ظلّ حين انهارت الموازين، نزيهًا حين شحّت النزاهة، حكيمًا حين ضاعت البوصلة .
0 Comment