شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في سجلّات الدول تُسجَّل الأسماء، لكن في ضمائر الأمم تُنقش القامات .
هناك رجالٌ لا تُخلّدهم صورٌ متألقة، ولا مناصب تُزيّنهم، بل طبقاتُ صمتٍ نزيه، ومعانٍ تتراكم ثِقلاً على مدار الزمن، تفوق بريق المجد الزائف .
هؤلاء لا يبنون تماثيل لأنفسهم، ولا يسعون لأضواء الخطابات، بل هم العمق الصامت لمسيرة الوطن، وحملة توازن الدولة ورعاة مشروع الفكرة .
وفي طليعة هؤلاء، يقف أحمد قائد بركات، ليس كوزيرٍ سابق أو دبلوماسيٍ تنقل بين العواصم، ولا كمثقفٍ ألّف كتبًا تروى، بل كرَمزٍ صلبٍ للجمهورية حين تكون مشروعًا أخلاقيًا حقيقيًا، لا مجرّد نظام سياسي عابر .
رجلٌ اشتبك مع مفاصل الدولة بضمير لا يلوثه الزمن، ومارس الفكرة من علٍ دون تعالٍ، ظلّ متمسكًا بصوابيته حتى في لحظات الظلام، وصلبًا حين هوت الهياكل، وعذبًا حين شحّ الماء من المعنى .
في زمنٍ صار فيه الانحياز للضمير ترفًا نادرًا، حافظ بركات على صلابته كواجب وطني مقدس .
لم يعش كبطل يتصدر المشاهد، بل مارس دور الضمير الحيّ للدولة — الذي لا يصخب ولا يصيح، بل يُرشد بخطى ثابتة وثقة لا تتزعزع .
واليوم، مع وداعه، لا نستحضر سيرته لنودّع جسدًا رحل، بل لنقرأ من جديد صيغة رجلٍ اختار أن يكون جمهورية تمشي على قدمين، وسط بلدٍ تعثر في مشيه، لكنه ظلّ ثابتًا في هدوئه ونبله .
من صنعاء إلى العالم :
ميلاد جمهوري في قلب الإمامة
في عام 1934، وُلد أحمد قائد بركات في صنعاء، تلك المدينة التي كانت حينها مغلقة على ظلال الإمامة وعقودها الثقيلة، مفتوحة فقط على إرثٍ صارم وموروثٍ متشبّث بالجمود .
في تلك الأزقة التي قيدت الأمل، حيث كان التعليم حكراً على القلة، والهواء نفسه يختنق تحت وطأة طاعةٍ فرضتها سلطة لا ترحم، نشأ فتى لم يرَ في الطاعة فضيلة، ولا في الجهل سترًا .
لم يكن غريبًا، إذن، أن يُختار بركات ضمن بعثة الأربعين الشهيرة — ذلك المشروع الجريء الذي أرسلت فيه الدولة المتردية والمترددة أولى إشارات النهوض، باختياره وعدد من الشباب ليحملوا شعلة التنوير من صنعاء إلى عواصم التعليم والحضارة .
لم تكن الرحلة مجرد طلب شهادات، بل كانت ولادة لحلم جمهوري؛ الحلم الذي يستند إلى العقل، والانتماء الواعي، والرؤية المستنيرة .
رحلة تعليمية رائدة لرجل صنع المستقبل
بدأت رحلة الأستاذ أحمد قائد بركات العلمية منذ نعومة أظافره في صنعاء، حيث كان من طلاب بعثة عام 1947 التي أرسلتها الدولة اليمنية الشجاعة آنذاك إلى الخارج، في خطوة استثنائية نحو الانفتاح على المعرفة والعالم الخارجي .
بعد حصوله على الثانوية العامة من مصر، انتقل بركات إلى المملكة المتحدة ليواصل تعليمه الجامعي في جامعة برمنغهام، حيث تخصص في علوم هندسة المناجم .
لم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل تابع دراساته وحصل على دبلوم في الهندسة البترولية من الكلية الإمبراطورية – جامعة لندن، مما أهّله ليكون من الأوائل الذين جلبوا لليمن خبرات عالمية في مجال النفط والمعادن .
هذه الرحلة التعليمية المتنوعة والمتعمقة لم تكن مجرد مسار دراسي عادي، بل كانت تمهيدًا لمشروع حياة كامل، صنع فيه بركات نفسه كمهندس دولة ومثقف فذ، استطاع أن يجمع بين العلم والفكر والقيادة ليكون من رواد النهضة اليمنية الحديثة .
في هذه الرحلة، لم يتعلّم فقط قواعد الاقتصاد والسياسة، بل اكتشف كيف تُولد الأوطان حين تُبنى على وعي لا على عمامة، وعلى بوصلة لا على عصا .
وهنا، في تلك الأقطار التي تباينت مع صنعاء، نما بداخله مشروع أكبر من الذات :
أن يعود إلى وطنه ليس كفردٍ نال حظه من التعليم، بل كـ”وعي مضاد للردة ”، وفاعل مستقبلي في هندسة دولة لم تكن سوى فكرةٍ ورقية آنذاك، لكنه صمم أن يجعلها حقيقةً نابضة بالحياة .
الجمهورية تولد من داخله :
بركات والثورة كمسؤولية مستمرة لا لحظة عابرة
لم يكن أحمد قائد بركات آنذاك يدرك أن ملامحه الصامتة المتأملة، التي تعكس عمق التفكير والرصانة، ستُخلّد في صفحات من أخطر وأشد تحوّلات التاريخ اليمني الحديث :
ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 .
لم يكن حماسه مقتصرًا على لحظة اندلاع الثورة، بل كان تراكم قناعات مزروعة في طفولته، تؤمن بأن وطنًا يُبنى على قواعد الطاعة والخضوع لا يستحق الحياة، وأن الدولة التي تُدار بمنطق الحق الإلهي لا تكون إلا سجناً للعقول والقلوب .
حين اشتعل وهج الجمهورية، لم يقف بركات في الصفوف الخلفية، ولا اتخذ الثورة مجرد فرصة سياسية أو محطة مؤقتة في حياته .
بل تعامل معها كواجب ثقافي وجودي، كأن التاريخ منحه مقعدًا في طاولة الأسئلة المصيرية :
ماذا يعني سقوط الإمامة ؟ كيف يُعاد بناء الدولة على أسس جديدة ؟ ومن يملك شجاعة كتابة العقد الاجتماعي الذي يرتضي الجميع ؟
في زمن ظن فيه كثيرون أن الانتصار هو خط النهاية، أدرك بركات أن النصر الحقيقي هو البداية الأكثر تعقيدًا لمسيرة طويلة، تتطلب عقلًا جمهورياً لا يكتفي بالاحتفال، بل يشرع في صياغة أركان الدولة وتأسيس هويتها .
وهكذا، لم يدخل بركات المشهد الجمهوري كرجل سياسة فحسب، بل كمهندس فكر ودولة، عقل مسؤول يقيم الجسور بين ثورة الغد وألم الواقع، بين بناء جديد وإرثٍ قديم، بين وعد التغيير وتحديات الاستمرارية .
ثورة الفكرة قبل البندقية :
حين يكون الوعي السلاح الأول والثابت
لم يكن أحمد قائد بركات من أولئك الذين يرفعون البنادق بغرض التمثيل البطولي أو المشهد السياسي المؤقت .
كان يرى أن الثورات التي تسبق فيها الرصاص الفكرَ، غالبًا ما تنزلق إلى فوضى مُنظّمة أو استبداد مُقنّع .
لذا، لم يدخل بركات ثورة سبتمبر 1962 كمجرد تمرّد على النظام الإمامي، بل كحالة تجذير لمشروع تفكيكي عميق للبنية الذهنية التي أسّست ذلك النظام واحتفظت به .
كان يدرك أن الإمامة لم تكن مجرد سطوة بندقية، بل منظومة فكرية متجذرة في ثقافة الخضوع، تستند إلى الدين، والنسب، والأساطير، لتكبت كل روح حرّة .
ومن هنا جاء انخراطه في الثورة من موقع المفكّر المهندس، لا كمهدم عشوائي؛ كصوت داخلي ينادي بأن الحرية الحقيقية لا تُكتمل بمجرد خلع الحاكم، بل بخلع الاستلاب والاغتراب من داخل النفس .
نظر بركات إلى البندقية بوصفها أداة ناقصة إذا لم تُدعّم بفكرة تصقل الغاية وتضبط الإيقاع .
فطوال العقود التي تلت الثورة، ظلّ متمسكًا بمعادلة نادرة وقاسية :
أن النصر الحقيقي لا يُقاس بسقوط الخصم، بل بقيام الوعي. وأن الدولة التي يُحكم بها لا تُبنى بالقوة وحدها، بل تُرسم أولاً في وجدان وضمير من يقودها ويعيشها .
حين تصبح الدولة ضميرًا لا مجرد هيكل :
بركات في مختبر التأسيس
هنا تكمن بصمته التي لا تُرصد بالعين المجردة، لكنها تُحسّ عميقًا في نبض البناء الجمهوري .
لم يكن أحمد قائد بركات مجرد موظف يتنقل بين مكاتب السلطة، بل كان يؤمن أن الدولة ليست جدرانًا تُشيَّد، بل منظومة رؤى تُصاغ، وأن الإنسان ليس رقمًا جامدًا في سجلات الدولة، بل هو لبنة الأساس التي تُبنى عليها الأمم .
في الدولة الوليدة التي خرجت من تحت ركام الإمامة وتداخلات القوى الخارجية، كان المشهد متشابكًا، والأدوار متداخلة، والمسؤوليات مُتضاربة .
لكن بركات، بتجرد نادر، اختار أن يدخل من الباب الذي يغفله كثيرون :
باب بناء النسق قبل الشعار، المبدأ قبل الكلام، الأساس قبل الزخرفة .
مسؤوليات وأدوار استثنائية :
أحمد قائد بركات رائد بناء الدولة اليمنية الحديثة
كانت رحلة الأستاذ أحمد قائد بركات عبر مضامير السلطة مسيرة استثنائية، تجلّت فيها عبقرية الرجل ورصانة الفكر، إذ لم يكن مجرد متقلّد لمناصب حكومية، بل كان مهندساً استراتيجياً في صرح الجمهورية الوليدة، إذ حمل على عاتقه مسؤوليات جسيمة تُشيد بأعمدة الدولة وتضع أُسس تطورها الشامل .
• وزير الخارجية (1969–1970) :
في فترة محورية شهدت تحديات إقليمية ودولية جسيمة، كان بركات سفير الجمهورية اليمنية على مستوى العالم، يتبنّى رؤى دبلوماسية ناضجة، ويصوغ استراتيجيات السياسة الخارجية التي أرست مكانة اليمن على خريطة العلاقات الدولية .
• وزير الإعلام والثقافة الوطنية ورئيس هيئة تعاون صنعاء (1970–1972) :
لم يكن مجرد منصب إداري، بل كان منصب مسؤولية ثقافية وطنية، قاد من خلاله مشروعا لإعادة صياغة الخطاب الوطني، وتعزيز الوعي الجماهيري والتعاوني، الذي يواكب بناء الجمهورية، رافعًا راية الثقافة والحداثة في وجه إرث الإمامة .
• سفير اليمن في ألمانيا الغربية :
في عهد انفتاح اليمن على العالم، حمل مهمة تمثيل بلاده في قلب أوروبا، ناشرًا صورة الدولة الوليدة بكل قيمها الحضارية، ومؤسسًا لروابط متينة على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية .
• وزير دولة ورئيس المؤسسة العامة للنفط والثروات المعدنية، وعضو مجلس الشعب التأسيسي (1978–1980) :
في مرحلة استراتيجية لتأسيس منظومة اقتصادية وطنية مستدامة، أشرف بركات على القطاعات الحيوية للثروات الطبيعية، مؤسسًا لخطوط سياسات استخراج وتطوير النفط والمعادن، التي تشكل شريانًا اقتصادياً أساسياً للدولة .
• وزير الاقتصاد والصناعة (1986–1988) :
في فترة اتسمت بالتحديات التنموية، كان بركات المحرك الأساسي لوضع السياسات الاقتصادية والصناعية، ساعيًا إلى بناء اقتصاد قوي متنوع، يخرج اليمن من دائرة الاعتماد على الموارد التقليدية .
• رئيس مجلس إدارة بنك اليمن الدولي (1987–1991) :
في قلب التحولات المالية، ترأس بركات مجلس إدارة بنك اليمن الدولي، معززًا ثقة المؤسسات المالية في اليمن، وراسمًا معالم القطاع المصرفي الحديث، داعمًا لجهود التنمية الاقتصادية عبر آليات التمويل البنكي .
• رئيس مجلس إدارة الخطوط الجوية اليمنية (1992): في مرحلة حرجة من إعادة هيكلة قطاع النقل الجوي، تولى قيادة الشركة الوطنية، مطورًا أداءها لتكون جسرًا جويًا يربط اليمن بالعالم، ويعزز دورها كواجهة حضارية للدولة .
لقد جسّد أحمد قائد بركات في كل موقع تولاه نموذجًا فريدًا لرجل دولة بمواصفات القائد المفكر، الذي لا ينحصر دوره في مجرد إدارة الملفات، بل في تأسيس وصياغة السياسات الوطنية الكبرى، واضعًا نصب عينيه مستقبل الجمهورية وكرامة شعبها .
لم يراهن يومًا على براقة الشعارات، بل على ثبات العمل، واستقامة البوصلة، وصدق التزام الخدمة العامة . فعندما تبوّأ موقعًا، أعاد تعريفه بعمل يومي رزين، يصقل الدولة كما يصقل الأب ابنه :
بالتوجيه الحازم، بالصبر المدروس، وبالمثال الحيّ .
من الحكومة والدبلوماسية إلى الكتابة :
رجل دولة بضمير مثقف
لم يكن أحمد قائد بركات مجرد حامل للمناصب الوزارية والدبلوماسية في تجربة الدولة اليمنية الوليدة، التي شهدت توليه وزارة الخارجية (1969–1970)، ثم الإعلام والثقافة، والاقتصاد والصناعة، إضافة إلى تمثيل اليمن في عواصم عالمية كسفير، ورئاسته لمجلس إدارة الخطوط الجوية اليمنية، وعضويته في مجلس الشعب التأسيسي .
لكنه لم يكن يومًا ذلك المسؤول الذي تُبتلعه آليات الوظيفة، ولا يذوب في دهاليز البيروقراطية، بل ظل محافظًا على مسافة نقدية واعية، تحمي له حرية الفكر وجرأة الرؤية .
فالكتابة عنده لم تكن مجرّد هواية أو نشاطاً جانبيًا، بل كانت فعلًا وطنيًا متكاملاً، وصوتًا رصينًا يعبر عن ضمير الدولة وينطق بأمل المواطن .
لم يكن فقط رجل دولة يدير الملفات والمشاريع، بل كان مثقفًا نابغًا يقرأ الواقع بعمق، ويُعبّر عن حقيقته بلا مواربة، كما لو أنه يحتفظ بورقة ضغط أخلاقية ترفعها في وجه كل تنازل، وكل انحراف عن المبادئ .
هذا التوازن بين العمل السياسي العميق والكتابة النقدية البناءة، صنع منه علامة فارقة في المشهد اليمني، ورمزًا لرجل الدولة المثقف، الذي يجمع بين السياسة والمعرفة، بين الميدان والقلم، بين الولاء للوطن والحفاظ على القيم .
الكتب لا تقل أهمية عن الوزارات :
بركات ككاتب يؤسس لوثائق وطنية
لم يكن أحمد قائد بركات مجرد رجل دولة يُسجّل إنجازاته في دفاتر الإدارة والمناصب، بل كان كاتبًا ينقش بأقلامه وثائق وطنية فريدة، يبدع في صياغة فكره كأنه يرسم مقدمة لليمن الذي حلم به، لا كرجل دولة متقاعد يُرصَد الماضي، بل كمؤسس لرؤية مستنيرة تمتد إلى المستقبل .
في مؤلفاته، يجتمع الفكر السياسي بالفلسفة والوجدان في تمازج نادر، حيث تتخطى نصوصه حدود السرد السياسي لتصل إلى جوهر الإنسان والهوية والدولة التي يراها مشروعًا حيًّا يُبنى لا يُعاد إنتاجه .
من أبرز أعماله التي تشكل حجر الزاوية في الأدب الفكري والسياسي اليمني :
•“ التخلّف لماذا؟ والتقدم لما لا ” و“ مأزق التنمية ” : تحليلات عميقة وجريئة تبحر في أعماق واقع اليمن والعالم العربي، محاولة لفهم جذور التخلف البنيوي، والتحديات التي تعترض طريق التقدم، بأسلوب فلسفي اقتصادي يزن بين الماضي والمستقبل .
• “ آفاق الديمقراطية ” و“ المسيرة اليمنية ” : مداخل فكرية وميدانية تستعرض قضايا الدولة والهوية، وتطرح تساؤلات مصيرية عن الديمقراطية والمواطنة في سياق التحولات الوطنية .
• “ النفط في اليمن ” و “ المعادن في اليمن ” :
مؤلفات علمية وتقنية تسلط الضوء على ثروات اليمن الطبيعية، وكيفية استثمارها في بناء دولة حديثة ذات سيادة اقتصادية .
• مجموعاته القصصية، أبرزها :
“منازل القمر” (ثلاثية منازل)، “حمار الروض”، “المبشّع”، و“ ليلة ظهور أسعد الكامل ”، حيث يختلط الواقع بالخيال، والسياسة بالإنسانية، ليصوغ سردًا أدبيًا يعكس نبض الوطن وهمومه .
• “ فسحة الأمل ومرارة التشرّد ” :
سيرة ذاتية آسرة تنقل القارئ عبر مرارة وطن هشّ، وأمل يتجدد رغم التحولات المضطربة، كصوت إنساني عميق وسط دوامة التاريخ .
كان بركات، بهذا الجمع بين السياسة والفكر، بين الإدارة والكتابة، يصنع وثائق وطنية لا تُمحى، تُرسم بخطوط حبره خرائط مستقبلية لا تكتفي برصد الواقع، بل تدعو إلى تغيير حقيقي، وإعادة تأسيس الدولة من الداخل .
بهذه الأعمال، أكد بركات أن الكتابة ليست ملحقًا في مسيرة رجل الدولة، بل ميدانًا للحفاظ على الذاكرة الوطنية، وسلاحًا ثقافيًا للحفاظ على الحلم الجمهوري من غبار الزمن والتجاهل .
نقد ذاتي ومسؤول :
أخلاقيات البناء خارج السلطة
في كتاباته، لم يتهرّب أحمد قائد بركات من مواجهة الحقيقة، بل مارس أعلى درجات النقد الذاتي للدولة والمجتمع، مؤمنًا بأن التغيير يبدأ بالاعتراف بالخلل وبإرادة صادقة للإصلاح .
لكن، وعلى عكس كثيرين، لم يغرق في فخ الشتم أو الشتات الذي يفرّق ولا يجمع، بل ظلّ متمسكًا بأخلاقيات البناء، حتى وهو خارج دوائر السلطة .
كانت كتاباته ناصعة بنقاء الوعي، حريصة على تقديم نقد لا يهدم، وحوار لا يفرّق، ورؤية لا تستكين للواقع الراهن . بهذا الأسلوب، رسم بركات نموذجًا يُحتذى به في كيفية الحفاظ على ضمير الدولة وروحها، بعيدًا عن التجاذبات السياسية العابرة، ومتمسكًا بالأمل في الوطن وشعبه .
هذه الرؤية لم تجعل منه ناقدًا بعيدًا عن الواقع، بل جعلته رائدًا في ترسيخ ثقافة النقد المسؤول، الذي ينطلق من الحب العميق لليمن، وإيمان لا يتزعزع بأن البناء الحقيقي يبدأ من الذات، ومن اللحظة التي يرى فيها المثقف أنه جزء من الحل لا من المشكلة .
نادر في جيله… ومختلف في موقعه :
رجل السلطة بقلب شاعر وفكر صلب
لم يكن أحمد قائد بركات رجل سلطة تقليدي، ولا ذلك السياسي الباحث عن مكاسب أو مزايا .
كان يحمل في قلبه رقة الشاعر وصرامة المفكر العميق، يجمع بين حساسية الوجدان وقوة القرار .
لم يكن طامعًا بمنصب، ولم يساوم على مواقفه الوطنية أو الأخلاقية مهما تعاظمت الضغوط .
في زمن كانت النزاهة تُعتبر عيبًا ونقصًا سياسيًا، برز بركات كنموذج نادر، رجلٌ جعل من النزاهة معيارًا لا تفاوض عليه، ومن المبدأ نبراسًا لا ينطفئ .
كانت مواقفه الصلبة، رغم بساطتها الظاهرة، تجسيدًا حقيقيًا للصدق والوفاء، مما أكسبه احترامًا واسعًا وسمعة لا يشوبها شك في ساحات السياسة والمجتمع .
كان مختلفًا لا لأنه رفض المشاركة، بل لأنه أصر على أن تكون مشاركته مبنية على أسس وطنية وأخلاقية راسخة، بعيدًا عن التنازلات التي تآكل جوهر الدولة والمجتمع .
القلائل الذين حفظوا نقاءهم :
بركات نموذج الاستقامة في عالم السياسة والدبلوماسية
قليلون هم أولئك الذين عبروا بين دهاليز الحزبية، وأروقة الوظيفة العامة، ومجالات الدبلوماسية الواسعة، دون أن يتلوثوا أو يبتعدوا عن مبادئهم الصلبة. أحمد قائد بركات كان أحد هؤلاء القلائل النادرين .
لم تسمح له المناصب أو الضغوط السياسية أن يفقد نزاهته أو يتنازل عن قيمه، بل ظلّ محافظًا على نقاء فكره ووضوح رؤيته، حتى في أصعب اللحظات التي يمرّ بها الوطن .
كانت حركته بين هذه العوالم المختلفة برشاقة الواقف على شفا هاوية، حيث يوازن بين التزامه الحزبي وولائه الوطني، وبين متطلبات الوظيفة العامة وأخلاقيات الدبلوماسية .
هذا التوازن المذهل كان سرًا في مكانته ومحبته، ورمزًا حيًا لأن الاستقامة ممكنة في عالم السياسة، حتى لو بدا ذلك حلمًا بعيد المنال .
على خرائط الجراح …
ومسارات الأمل
بين صنعاء وعدن، والحديدة وتعز، وبين برلين وطوكيو، مشى أحمد قائد بركات على تضاريس وطن مجروح، لكنه لم يتخلّ يومًا عن إيمانه بأن الغد ممكن، وأن الإنسان هو المشروع الأجدر بالبناء .
لم يكن مارًا عابرًا في جغرافيا الدولة، بل كان شاهدًا وفاعلًا في تشكّلها، متنقلاً بين الوزارات والسفارات كما لو أنه ينقّل الوطن نفسه بين الضمير والحلم .
لم يكن محايدًا في معركة الوعي؛ كان يؤمن أن الثقافة ليست زيادة عن الحاجة، بل الجبهة الأخيرة التي لا يجب أن تسقط مهما انهارت الجبهات الأخرى .
وبهذا الإيمان، ظلّ يكتب، يُعلّم، يُحاور، ويمارس الوطنية كحرفة يومية تُقاوم الإنهاك، وتُصون ما تبقى من الحلم الجمهوري الكبير .
رجل ما بعد العناوين :
الحضور النبيل في زمن الصخب
ورغم أنه لم يلهث يومًا خلف أضواء الإعلام، إلا أن الذين عرفوه، وقرأوه، وسمعوا صمته أكثر من خطابه، يدركون تمامًا أنه كان “رجل ما بعد العناوين” — لا يحتاج إلى مانشيتات كي يُرى، بل يكفيه أن يظل في ظل الفكرة، حاضرًا بصمته، وفاعلًا بحكمته، ونزيهًا حدّ الإرباك في زمن امتهن التبرير .
كان يحمل همّ اليمن لا في الخطب، بل في السلوك اليومي، وفي نزاهة القلب، وفي تلك الطريقة المتعفّفة التي لا تُشبه سوى الكبار حين يتواضعون .
عاش كما يحيا الحكماء :
ثقيل الظل على الفاسدين، وخفيف الروح على الوطن .
ومن بين ركام السياسة، بقي وجهه مرفوعًا كعلامة استفهام نقية في زمن امّحى فيه الفارق بين الفشل والخيانة .
الخلاصة:
بركات …
الاسم الذي قال ما عجزت عنه الحكومات
لم يكن أحمد قائد بركات مجرد سياسيٍ عابرٍ في سجلّ الدولة، بل رؤية نادرة لمعنى الدولة حين تُبنى على الضمير، لا على الصدفة .
كان درسًا حيًا في أخلاقيات الوظيفة العامة، وفي صلابة الفكرة حين تتقدّم على إغراءات المنصب ومساومات اللحظة .
لم يكن مجرد سيرة ذاتية تتزاحم فيها العناوين، بل ضميرًا جمهوريًا احتفظ باتّزانه في زمن الاختلال، ومارس الفكرة كوظيفة دائمة حتى وهو خارج أسوار السلطة .
كتب بحبر الوعي ما عجزت عنه الحكومات، وبصمت النبلاء ما لم تستطع الجبهات أن تحقّقه .
وترك خلفه، لا مجرد تاريخٍ يُروى … بل معيارًا أخلاقيًا يُقاس به الرجال .
وصيّة للأجيال:
فكرة تمشي على قدمين
واليوم، في لحظةٍ تاريخيةٍ تتقاطع فيها الخرائط وتتبعثر فيها البوصلة، وتتشظى الحقيقة بين الرواية والرغبة،
يحتاج هذا الجيل ألا يكتفي بالسماع … بل أن يتعلّم ويفهم أن في هذا البلد رجلًا اسمه أحمد قائد بركات .
رجلٌ لم يرفع صوته ليُسمع، بل رفع فكرته ليُبنى عليها .
عاش بكرامة لا تُشترى، ومات بوطنية لا تُباع، وترك خلفه ما هو أثمن من المناصب والذكريات :
ترك فكرة تمشي على قدمين …
وتنظر إلى الأمام .
0 Comment