الرئيس الذي لم يُطلق الرصاص وهو يحترق

الرئيس الذي لم يُطلق الرصاص وهو يحترق

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

5-1

 

قراءة في لحظة نادرة من شرف العمل السياسي

 

في التاريخ العربي الحديث، لا تسير النهايات غالباً نحو الضوء .

 إنها إما نفيٌ في العتمة، أو دمٌ يُسفك في الميادين، أو كراسي تُقلع من تحت أصحابها وهم متشبثون بها حتى الرمق الأخير .

قلّ أن نجد زعيماً يسلم السلطة وهو قادر على التمسك بها، وندر أن تصدر عن حاكم في لحظة اغتيال فاشلة كلمة تحمل اتزان الدولة لا انفعال الثأر .

 

في هذا المسار المليء بالخوف والغضب والتشبث، برزت لحظة واحدة فقط – كأنها كُتبت خارج السياق – وقف فيها رجل في أشد حالاته ضعفاً، وقد التهم الحريق وجهه ورفاقه، ليقول ما لا يُقال :

“لا تطلقوا رصاصة واحدة على الساحات .”

 

كانت تلك لحظة صعود أخلاقي نادر في مشهد سقوط سياسي .

ليست لحظةً تصنع زعيماً خالداً فحسب،

بل لحظةٌ تُلقي بحجرٍ ثقيل في ماء الوعي العربي، فتُحرّك سؤالاً ظلّ راكداً طويلاً :

هل كان ممكناً – وسط كل هذا الخراب – أن نصنع سياسة بشرف ؟

 

وبغضّ النظر عمّا قيل فيه من مدحٍ أو قدح،

فقد قدّم علي عبدالله صالح لحظةً سياسية لا تتكرر:

رجلٌ التهمت النار وجهه، لكنه أبى أن تلتهم بلاده.

 

لم ينتصر لنفسه،

بل انتصر لما تبقّى من وعي الدولة وسط العاصفة،

واختار – وهو في ذروة الألم –

أن يكبح الرصاص عن قدرة، لا أن يطلقه عن غريزة .

 

قصفٌ في بيت الله … 

وكظمُ الغيظ عند بوابة النار

 

في الثالث من يونيو 2011، داخل مسجد دار الرئاسة بصنعاء، تهاوت القِباب على رؤوس المصلين في لحظة غدر لا تشبه إلا الانقلابات الخرساء في التاريخ .

قُصف المكان المقدّس، لا في ساحة حرب، بل في حضرة السجود، فاحترقت الوجوه وتفحّمت الأجساد، وكان الرئيس علي عبدالله صالح بينهم – جسداً مشتعلاً وصوتاً غائباً بين الحياة والموت .

 

لم تكن ضربةً عسكرية فحسب، بل كانت محاولة لاغتيال المعنى في أشد صوره هشاشة :

 بيت من بيوت الله، وصلاة جمعة، ورجال دولة تحولوا إلى ضحايا بين ركام السجادة والمنبر .

 

ومن المؤكد تورط شخصيات مؤثرة في معسكر الإخوان المسلمين، والتي كانت على خصومة شديدة مع صالح، وقادرة – تنظيمياً وعسكرياً – على تنفيذ عملية خطيرة وغادرة من هذا النوع .

 

لكن ما سيبقى من تلك اللحظة ليس مشهد الدمار، بل الجملة التي خرجت من فم رجلٍ محروق الجسد، لم يُطفئ فيه الحريق بقايا التماسك :

 

 “لا تطلقوا رصاصة واحدة على الساحات " .

في اللحظة التي تتلاشى فيها قدرة الإنسان على التفكير، حين يتحوّل الغضب إلى غريزة والانتقام إلى ردّ فعل طبيعي، وحين تتقدّم مشاعر الثأر على حساب الدولة،

انبعث صوته من بين الرماد والنار، كوصية أخيرة لرجلٍ يحترق ولا يريد أن يحترق الوطن معه :

 

 “لا تطلقوا رصاصة واحدة على الساحات.”

لم تكن مجرد كلمات، بل كانت كبحاً غريزياً للقوة في لحظة ضعف مطلق .

كانت تلك الجملة كأنها صادرة عن قلبٍ لم تُغلقه السلطة على الناس، بل أبقاه مفتوحاً حتى على خصومه .

 

لم يكن ذلك خطاباً سياسياً مصقولاً أمام الكاميرات، ولا بيانا مكتوباً بعناية خلف المكاتب .

بل كان أول ما نطق به وهو يتلمّس الحياة من بين اللهب والدخان، كلمة خرجت من بين الألم قبل أن تمرّ على العقل، ومن عمق الغريزة الأخلاقية لا من دفتر التكتيك السياسي .

 

في لحظةٍ كان فيها الجسد منكسراً، والبلاد تغلي،

اختار أن لا يضيف إلى وجعه وجع الوطن، ولا يردّ على الغدر بالدم .

حكمة رجل الدولة في بلد لا يحكمه القانون وحده .

 

علي عبدالله صالح لم يكن حاكماً ديمقراطياً كما تُعرّفه الكتب الغربية، لكنه كان يعرف أعماق اليمن بتعقيداتها القَبَلية، وتوازناتها الهشة، وذاكرتها المثقلة بالصراعات أكثر من كثير من خصومه المثاليين .

 

أدار بلداً لا تُبنى فيه الدولة بالقوانين وحدها، بل بالمهادنة، والمناورة، وربما بالمجازفة المُحسوبة على حافة الهاوية .

ولئن وُصف طويلاً بأنه “ راقص على رؤوس الثعابين ”، فقد ثبت في اللحظة الحاسمة أنه لم يكن راقصاً على دماء اليمنيين .

 

حين احترق فعلياً، لم يفتح نيران الانتقام، بل دعا لضبط النفس …

فأثبت – ولو لمرة – أن رجل الدولة ليس من يفرض القانون بالقوة، بل من يَكُفّ القوة حين يكون الكفّ أعظم من الانتصار .

لم تكن تلك بطولة أسطورية خارقة، بل كانت بطولة سياسية نادرة – واقعية وإنسانية – في سياق عربيٍ مقلوب، حيث يغدو البقاء في الصورة مبرراً لسحق الشعوب، وحيث لا يتردد الحاكم في إشعال البلد بأكمله كي لا يخفت صوته أو تهتز صورته .

 

في مثل هذا السياق، أن يتراجع زعيمٌ عن ردّ الفعل وهو محروق الجسد، فهذا وحده يكفي ليُسجّل الفعل في خانة الأخلاق، لا في ميدان المزايدة .

 

مفارقة تسليم السلطة … 

حين يكون الخروج أصعب من البقاء

 

ثم جاءت لحظة أخرى لا تقل استثنائية :

نوفمبر 2011، لحظة توقيعه على المبادرة الخليجية، ونقله السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي، ليس مكرهاً، ولا مقهوراً، بل وهو لا يزال يمسك بمفاتيح القوة : 

جيشٌ متمرّس، جهاز أمني نافذ، وولاءات قبلية صلبة .

 

كان في وسعه – كما فعل غيره – أن يغلق أبواب التسوية، ويغرق البلد في سيناريو دموي مفتوح .

لكنه اختار أن يخرج وهو قادر على البقاء، وهي مفارقة نادرة في سجل الزعامات العربية، حيث يغدو الخروج، أحيانًا، أصعب من الاستمرار .

 

لم يكن قديساً، ولا فعل ذلك تجرّداً من كل مصلحة،

لكنه – ببساطة ووضوح – فعل ما لا يفعله كثيرون حين تُتاح لهم كل أدوات البقاء .

أن يتخذ القرار الصعب وهو في موقع القوة، لا حين تنهار أوراقه، تلك هي اللحظة التي تتحوّل فيها السياسة من سلطة إلى مسؤولية، ويغدو الخروج عن المعهود استثناءً يستحق أن يُسجل .

 

الخلاصة : 

لحظات قليلة تكفي لحُكم عمرٍ كامل

 

لم يكن علي عبدالله صالح منزّهاً عن الأخطاء،

لكن التاريخ لا يُروى بالمثاليّات، بل باللحظات التي يعلو فيها الإنسان على سلطته .

 

وفي عمرٍ سياسي امتد أكثر من ثلاثة عقود، برزت لحظتان فقط كانتا كفيلتين بمنح التجربة طابعها الأخلاقي :

 • لحظة امتنع فيها عن إطلاق النار، وهو يحترق بين الركام،

 • ولحظة سلّم فيها الكرسي، وهو يملك كل ما يلزم للبقاء .

 

هاتان اللحظتان، في ميزان الزعامات، أثقل من سنواتٍ تُبنى فيها العروش على الدم .

في زمنٍ تتفجّر فيه العواصم لأن حاكماً لم يحتمل فكرة الرحيل، وتُزهق فيه الأرواح بالجملة لأن زعيماً تصدّعت صورته في المرآة، تبقى تلك اللقطة – صوت رجلٍ يتلوّى من الحريق، ثم يطلب من رجاله ألا يطلقوا النار –

أشد وقعاً من كل الخطب، وأصدق من كل الشعارات .

 

تلك ليست لحظة من تاريخ اليمن فحسب، بل لحظة ينبغي أن تُحفَر في الذاكرة الأخلاقية للسياسة العربية، كإشارة نادرة إلى أن السلطة يمكن أن تنكسر بشرف،

وأن الحاكم، حتى وهو في أقصى ضعفه، قد يُنقذ البلاد إن امتلك شجاعة أن لا ينتقم .

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top