موسكو بين خذلان الحلفاء … وتفكيك أمنها القومي

موسكو بين خذلان الحلفاء … وتفكيك أمنها القومي

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

 

في معادلات الجغرافيا السياسية، الخرائط ليست خطوطاً على الورق، بل جدران حماية، ومسارات نفوذ، وشبكات أمن قومي متداخلة . 

 

والتحالفات ليست بيانات دبلوماسية، بل صمامات أمان وجودي، واختبارات لمصداقية القوى الكبرى .

 

لكن، موسكو اليوم، تبدو وكأنها تفكك جغرافيا أمنها القومي بيديها، وتخذل حلفاءها في أكثر اللحظات دقة، تاركةً فراغاً استراتيجياً يتمدد فيه خصومها، خطوة بعد خطوة .

 

ما بين تآكل دوائر النفوذ في العراق، والتراجع عن خطوط الدفاع في ليبيا وسوريا، والتلاعب المتكرر بمصالح الشركاء الإقليميين … تبدو روسيا وكأنها تسير على حافة خسارة كبرى، لا تهدد حلفاءها فحسب، بل تقوّض آخر الحواجز الجغرافية التي تحمي أمنها القومي من الداخل والخارج .

 

الأسوأ … أن هذه السياسة قصيرة النظر، قد تعيد رسم خرائط الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بطريقة تُحاصر روسيا نفسها، وتفتح أبواب العمق الروسي أمام تصعيد غربي متسارع .

 

من العراق إلى سوريا … 

سلسلة خسائر موسكو الاستراتيجية

 

على امتداد العقدين الماضيين، باتت سياسة موسكو تجاه حلفائها نموذجاً للتردد الاستراتيجي والمناورة قصيرة الأمد، ما فتح الباب أمام خصومها لإعادة رسم الجغرافيا السياسية في عمق مناطق نفوذها، الواحدة تلو الأخرى .

 • في العراق، تركت موسكو بغداد تسقط في الفراغ، ليملأه الاحتلال الأمريكي بالكامل، رغم أن العراق كان تاريخياً يشكّل أحد المفاتيح الاستراتيجية لامتداد النفوذ الروسي نحو الخليج والشرق الأوسط، وعمقاً طبيعياً لجدارها الجيوسياسي جنوباً .

 

• في ليبيا، كرّرت موسكو الأخطاء ذاتها ؛ حضور محدود، صفقات تكتيكية، وغياب الرؤية الشاملة، ما سمح لحلف شمال الأطلسي بنزع ورقة النفوذ الروسي من شمال أفريقيا، وتحويل ليبيا إلى ساحة فراغ تتغذّى منها التوترات التي تمتد إلى المتوسط والجنوب الأوروبي .

 

• أما في سوريا، رغم التدخل العسكري المباشر، ظلّت موسكو أسيرة تفاهمات هشة، ومناورات سياسية بلا حسم، ففقدت فرصة ترسيخ معادلات ردع حقيقية تحمي حلفاءها وتمنحها عمقاً استراتيجياً مستقراً في قلب الشرق الأوسط .

 

باختصار، تكررت الحلقة ذاتها : 

تردد موسكو، خسائر متراكمة، وتفكيك تدريجي لخرائط الأمن القومي الروسي، وسط سباق إقليمي ودولي لا يرحم المتأخرين أو المترددين .

 

إيران … 

آخر جدار قبل سقوط موسكو في فخ الانكشاف الاستراتيجي

 

اليوم، وسط تسارع تفكك خرائط النفوذ، تقف إيران ليست مجرد حليف طارئ أو شريك ظرفي لموسكو، بل باعتبارها آخر جدار صلب في معادلة الدفاع عن أمن روسيا القومي، وأحد أهم صمامات الأمان أمام الانكشاف الجيوسياسي الخطير لخاصرتها الجنوبية .

 

• إيران ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة جيوسياسية صارخة ؛ فهي تمثل خط الدفاع الأخير المتبقي لحماية المجال الروسي من بوابة الجنوب، حيث تلتقي خطوط الطاقة، وتتقاطع الممرات البحرية الاستراتيجية، وتُرسم حدود التوازن بين القوى الكبرى .

 

• هي نقطة تماس مباشرة مع منابع الطاقة العالمية، ومعبر إلزامي في سباق السيطرة على الممرات البحرية، من الخليج العربي حتى بحر قزوين، ومن مضيق هرمز حتى قلب أوراسيا .

 

• فوق ذلك، تُشكّل إيران ثقلاً إقليمياً بالغ الأهمية، يوازن اختلالات النفوذ، ويحدّ من تغوّل الناتو، ويكبح التمدد الإسرائيلي المتسارع باتجاه عمق آسيا الوسطى، حيث يقع قلب المجال الحيوي الروسي .

 

لكن المفارقة الكبرى، بل الكارثة الاستراتيجية الحقيقية، أن موسكو ما تزال تتعاطى مع هذا المعطى الحرج بذات أدوات المناورة والتردد قصيرة النظر، تُمسك العصا من منتصفها، تراوغ بين إسرائيل والغرب، وتُكرر خذلان الحلفاء، حتى على حساب أمنها القومي المباشر .

 

بهذه المقاربة المرتبكة، لا تُضعف موسكو حلفاءها فحسب، بل تنخر تدريجياً أساسات أمنها الاستراتيجي، وتُمهّد الطريق لعزلها الجغرافي، وتطويقها على خريطة الصراعات الدولية القادمة .

 

زيارة عراقجي … 

موسكو تُعيد إنتاج خيبة الحلفاء

 

في ذروة احتدام المشهد الإقليمي، حين تتقاطع نذر التصعيد العسكري مع مفترق التحالفات الدولية، حمل كبير المفاوضين الإيرانيين، عباس عراقجي، حقيبته الثقيلة نحو موسكو، محمّلاً بملفات أمنية مصيرية، تتجاوز حدود إيران لتطال صميم مستقبل التوازنات في أوراسيا والشرق الأوسط معاً .

 

كانت طهران، ومعها الكثير من المراقبين، تتوقع من الكرملين موقفاً صريحاً، يعيد رسم قواعد الاشتباك، ويضع حداً لمحاولات تطويقها جغرافياً وسياسياً . 

 

لكن، وكما هي عادة موسكو، جاءت النتائج مخيّبة بل ومُربكة استراتيجياً :

 • خلف الأبواب المغلقة، استمرّت التفاهمات الغامضة بين الكرملين وتل أبيب، حيث تُضبط ساعات القصف الإسرائيلي في سوريا ضمن نطاق مسموح به، يُبقي الضغط قائماً على حلفاء إيران دون إغضاب موسكو .

 • في مواجهة التوترات المتصاعدة في الخليج وسوريا والعراق، كان الحضور الروسي أشبه بظل سياسي : 

غياب كامل لأي موقف صريح يردع الاستفزازات الغربية، ولامبالاة تُعيد للأذهان مسلسل خذلان موسكو لحلفائها من بغداد إلى طرابلس .

 • الأدهى، تجاهل مطلق لحقيقة بديهية في معادلات الجغرافيا السياسية : 

إضعاف طهران، أو سقوطها، يعني انكشاف خاصرة روسيا الجنوبية بالكامل، وإسقاط آخر جدار يحمي موسكو من طوفان التمدد الأطلسي والإسرائيلي في العمق الآسيوي .

 

زيارة عراقجي لموسكو لم تكن مجرد جولة دبلوماسية عابرة، بل اختبار صريح لما تبقى من جدوى التحالفات الروسية … والنتيجة حتى اللحظة : 

خيبة إيرانية تتكرر، وانكشاف روسي يقترب .

 

ضربة العديد … 

بين وهم المناورة وواقع الخذلان

 

لم تكن الضربة الإيرانية الرمزية التي استهدفت قاعدة العديد الأمريكية في قطر سوى مشهد إضافي في مسرحية التوازنات المختلة، حيث تتقاطع الحسابات الدقيقة مع خيبات التحالفات المتآكلة .

 

طهران، التي وجدت نفسها محاصرة بضغوط دولية متصاعدة، ومساومات خفية من خلف الكواليس، اضطرت للقبول بهذا السيناريو : 

ضربة محدودة محسوبة، بلا أضرار فعلية، تضمن للأطراف الكبرى حفظ ماء الوجه، وتُفرّغ مفاهيم الردع من مضمونها الحقيقي .

 

لكن الأعمق من ذلك، أن هذا المشهد يعكس نتيجة مباشرة لخذلان موسكو المتكرر لحلفائها، حيث تركت طهران مكشوفة أمام آلة الضغط الغربي، دون غطاء استراتيجي فعّال، ودون موقف روسي يُحدث فرقاً في معادلة الردع الإقليمي .

 

أما الهدنة الهشّة التي أعقبت تلك الضربة، فهي ليست أكثر من تجميد موقت لصالح خصوم محور المقاومة، وتقليص تدريجي لنفوذ إيران، وعزلها عن ساحات الاشتباك الحقيقية، في مشهد يُعيد إنتاج ما حدث في العراق وسوريا، ويهدد آخر جدران الأمن الجيوسياسي الروسي .

 

في النهاية :

ليست القضية ضربة في قطر بقدر ما هي إشارة صارخة : 

حين يتآكل العمق الاستراتيجي، وتضعف التحالفات، يصبح حتى الردّ مجرد استعراض عابر، يُدار من غرف التفاهمات الخفية، لا من ساحات القرار الحقيقي .

 

موسكو … 

حين تخسر الجغرافيا قبل سقوط الحلفاء

 

الخطر الحقيقي لا يكمن في خذلان موسكو لحلفائها، بل في ما هو أعمق وأخطر : 

التفريط الممنهج بخرائط الجغرافيا التي تشكّل صميم أمنها القومي .

 

اليوم، تقف روسيا أمام مشهد جيوسياسي متصدّع :

 • تمدد الناتو تدريجياً من خاصرتها الجنوبية في القوقاز، مروراً بآسيا الوسطى، وصولاً إلى الخليج، يطوّق المجال الحيوي الروسي ويضيّق عليه أنفاس المناورة الاستراتيجية .

 • تغلغل إسرائيل السياسي والأمني في مفاصل القرار الإقليمي، خاصة في الخليج وآسيا الوسطى، لا يقل خطورة، إذ يُقزّم أدوار موسكو، ويفرغ تفاهماتها من مضمونها، ويدفع الحلفاء نحو خيارات قسرية بعيداً عنها .

 • سقوط الحلفاء، أو حتى إضعافهم، لم يعد شأناً محلياً في بغداد أو دمشق أو طهران، بل تحوّل إلى ثغرات استراتيجية تمهّد لعزل موسكو اقتصادياً، تطويقها عسكرياً، وتحجيم نفوذها دولياً من كل الاتجاهات .

 

في هذا السياق، تبدو سياسة الكرملين أشبه بمن يقامر بآخر أوراق اللعبة الجيوسياسية، مكرراً سيناريو العراق وليبيا وسوريا، حيث حوّلت موسكو التردد، والمساومات الهشة، إلى مساحات فراغ استراتيجية ملأها الخصوم بإعادة رسم الخرائط والتحالفات على حسابها .

 

أما السؤال الأهم : 

هل تدرك موسكو اليوم أنها لا تخسر حلفاء، بل تخسر بالتدريج معاقل جغرافيتها الأمنية، وتفتح أبواب عمقها الاستراتيجي لرياح التغلغل الغربي ؟

 

الخلاصة … 

موسكو تُفرّط بالجغرافيا قبل أن تخسر الحلفاء

 

التاريخ لا يُعيد نفسه بطريقة عبثية، بل يُكرّر دروسه على من لا يُحسن قراءته . 

سقوط الجدران الأمنية، وتآكل التحالفات، لا يحدثان بضربة واحدة، بل يبدأن بشقوق صغيرة في جدران الجغرافيا … ثم تتسارع الانهيارات .

 

اليوم، موسكو لا تخذل الحلفاء فقط، بل تُمعن في التفريط بخرائط أمنها القومي، وتسمح بصمت لتآكل الحزام الجغرافي الذي شكّل يوماً عمقها الاستراتيجي الممتد من آسيا الوسطى إلى المتوسط والخليج .

 

الرهان على صفقات تكتيكية، في أوكرانيا، أوتفاهمات وقتية مع خصوم الأمس، أشبه بمحاولة إنقاذ سفينة مثقوبة عبر تحريك المقاعد … بينما الماء يتسرّب من كل الاتجاهات .

 

وفي عالم صراعات النفوذ، حين تنهار الجغرافيا، لا ينفع الندم … ولا تعوّض التحالفات المتأخرة ما أفسدته الحسابات القاصرة والرؤية قصيرة الأمد .

 

روسيا أمام مفترق طرق مصيري :

إما أن تستعيد وعي الجغرافيا … أو تصحو محاصرة خلف جدرانٍ تتهاوى بصمت، بينما يُعيد خصومها رسم الخرائط… هذه المرة بلا طلقة واحدة .

 

في عالم الصراع الجيوسياسي، لا تُقاس الانتصارات بعدد الصواريخ، بل بقدرتك على حماية خرائطك من التآكل، وعمقك الاستراتيجي من التفكك .

 

اليوم، الكرملين أمام لحظة اختبار تاريخية :

 

٠ إما أن يُدرك أن خسارة الحلفاء ليست مجرد انتكاسة مؤقتة، بل خطوة أولى نحو تطويق موسكو استراتيجياً، من القوقاز حتى الخليج، ومن شرق المتوسط حتى حدود آسيا الوسطى .

 

٠ أو يواصل سياسة التردد، والمقايضات قصيرة النظر، التي جعلت نفوذ روسيا يتآكل تدريجياً في العراق، ليبيا، سوريا … وها هو اليوم مهدد بالتمدد نحو إيران، آخر جدار جيوسياسي يحمي الخاصرة الجنوبية لموسكو .

 

الأخطر، أن خصوم روسيا باتوا يُجيدون حرب “ إعادة رسم الخرائط ” بهدوء، عبر الاتفاقيات، الاختراقات، وتحريك الأحلاف، دون الحاجة إلى صدام مباشر .و

 

والحقيقة … 

الجغرافيا لا تنتظر المترددين، والتاريخ لا يرحم من يفرّط في أوراق قوته، خاصة حين تكون الخسارة صامتة … بلا صدى رصاص، لكنها أشد فتكاً من الحروب الكلاسيكية .

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top