ترامب في الرياض : تحالف الصفقات

ترامب في الرياض : تحالف الصفقات

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

في صباحٍ مشبع بالرسائل والرمزية، حطّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، الثلاثاء 13 مايو 2025، فاتحاً بوابة زيارته الخليجية التي تشمل أيضاً قطر والإمارات . 

 

لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل استعراضاً دبلوماسياً مدروساً، ترسم من خلاله واشنطن والرياض ملامح مرحلة جديدة، عنوانها الأبرز : “ الصفقات أولاً، والمصالح فوق الشعارات ” .

 

جاء ترامب هذه المرة لا كمرشح صاخب يغازل جمهوره، بل كرئيس فعلي يمسك بدفاتر الدولة العميقة، مدججاً بأوراق تفاهم اقتصادية وعسكرية، وبخطاب سياسي مختلف : 

أقل ضجيجاً، وأكثر براغماتية . 

كانت الرسالة واضحة منذ لحظة الاستقبال الفاخر : 

التحالف مستمر، لكن على أسس جديدة تصوغها لغة المال والنفوذ والتكنولوجيا .

 

الرياض، التي أتقنت عبر العقود قراءة المزاج الأمريكي، أستقبلت ترامب بذكاء استراتيجي . 

فكل تفصيل في الزيارة، من توقيتها إلى جدولها، حمل دلالة على أن المملكة السعودية تريد أن تبقى اللاعب الأهم في لوحة الشطرنج الإقليمية ، مستفيدة من عودة الرجل الذي يعرف تماماً كيف تدار الصفقات، حتى لو أغضب الحلفاء أو أدهش الخصوم .

 

جدول مشحون بالرمزية… 

واستثمار يتجاوز الأرقام

 

منذ لحظة وصوله، بدا أن زيارة ترامب إلى الرياض ليست مجرد محطة دبلوماسية، بل عرضٌ سياسي واقتصادي محسوب .

 استقبله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عند سلم الطائرة، في مشهد محمّل بالدلالة، يؤكد متانة العلاقة الشخصية والمؤسسية بين الطرفين .

 

لاحقاً، شارك الرئيس الأمريكي في منتدى الاستثمار السعودي – الأمريكي، حيث أُزيح الستار عن ما وُصف بـ” شراكة اقتصادية تاريخية ”، تضمنت عقوداً واستثمارات تتجاوز الأرقام نحو إعادة رسم خريطة النفوذ التكنولوجي والطاقة .

 

مأدبة الغداء جمعت كبار رجال الأعمال من كلا الجانبين، من بينهم إيلون ماسك وجيف بيزوس، في تفاعل نادر يعكس رغبة متبادلة في تحويل التعاون الاقتصادي إلى مشروع نفوذ عالمي مشترك . 

أما العشاء الرسمي في قلب الدرعية، فلم يكن فقط احتفاءً بالبروتوكول، بل رسالة غارقة في الرمزية :

 السعودية الجديدة تفتح أبوابها للعالم، لكنها لا تنسى جذورها العميقة .

 

صمت الملك… وصوت التحوّل : 

الرياض تعيد رسم السلطة

 

لكنّ الغياب الذي لم يمرّ مرور الكرام، كان غياب الملك سلمان بن عبدالعزيز عن مشهد الاستقبال، وهو غيابٌ ثقيل بالحسابات والدلالات . 

 

ففي لحظة يُعاد فيها رسم خرائط النفوذ الإقليمي من بوابة الرياض، يُطرح السؤال بصوت أعلى : 

من يُمسك فعلياً بمقاليد القرار؟ وأين تتجه موازين السلطة داخل المملكة في زمن التحولات الكبرى ؟

 

صفقات بحجم التاريخ… 

وقرارات تُعيد رسم التوازنات

 

من قلب الرياض، أطلق الرئيس ترامب قنبلة سياسية واقتصادية مدوّية، معلناً عن حزمة اتفاقيات هي الأضخم في تاريخ العلاقات الأمريكية السعودية، تجاوزت قيمتها 600 مليار دولار، في مشهد يُعيد تعريف التحالف لا على أسس استراتيجية فقط، بل بلغة الأرقام الثقيلة والمصالح المباشرة .

 

وجاءت تفاصيل الاتفاقيات كالتالي :

 • 142 مليار دولار لصفقة تسليح ضخمة تشمل أنظمة دفاعية وهجومية متقدمة .

 • 20 مليار دولار مخصصة لاستثمارات سعودية – أمريكية في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، بما يعزز من تحول المملكة إلى مركز رقمي عالمي .

 • شراكات استراتيجية مع عمالقة التكنولوجيا مثل Google، Oracle، وNvidia، ضمن خطة مشتركة لرقمنة الاقتصاد السعودي وربطه بمنظومة الابتكار الأمريكية .

 

لم تكن الزيارة مجاملة سياسية، بل لوحة اقتصادية محمّلة بالرسائل : 

السعودية تشتري الأمان، وواشنطن تبيع النفوذ، بينما الجميع يراقب التحوّلات .

 

ما وراء الصفقات :

 رسائل إقليمية تُشعل الجغرافيا السياسية

 

لم تكن زيارة ترامب للرياض محصورة في لغة المال والأعمال؛ بل جاءت محمّلة بمفاجآت سياسية مدوّية . 

فقد أعلن الرئيس الأمريكي، وبنبرة لا تخلو من التحدي، عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا منذ عام 1979، في خطوة مفصلية مهدت للقاء الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، بالرياض، والذي خلف بشار الأسد في انتقال أثار تساؤلات العالم .

 

وفي الاتجاه المقابل، وجّه ترامب رسالة نارية إلى طهران، أعاد فيها التلويح بسياسة “ الضغط الأقصى ”، مؤكداً أن أي تهاون أمريكي قد ولّى، وأن على إيران التخلي عن طموحاتها النووية إذا أرادت البقاء في دائرة الحوار .

 

زيارة بحجم خارطة، أعادت خلط الأوراق، وحددت مسارات جديدة للمنطقة… عنوانها : 

لا مكان للرمادي .

 

زيارة ترامب للرياض لم تكن مجرد محطة بروتوكولية، بل إشارة واضحة إلى تحوّل جوهري في البوصلة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط . 

فالأولوية باتت للاقتصاد، والتكنولوجيا، والصفقات العملاقة، بينما تراجعت الملفات الحقوقية والديمقراطية إلى الهامش، إن لم تكن قد شُطبت من جدول المصالح نهائياً .

 

هذا التحول لم يكن خفياً ؛ فقد غابت قضايا محورية مثل حقوق الإنسان، والأزمة اليمنية، والحريات السياسية، عن خطاب الزيارة بشكل شبه تام، باستثناء إشارات عابرة تتصل بأمن الملاحة وممرات الطاقة .

 

إنها واقعية أمريكية جديدة، لكنها واقعية مكشوفة، تؤكد أن ما يحكم العلاقة اليوم هو المنفعة لا المبادئ، والصفقة لا الرؤية، ما يطرح تحديات بالغة على دول المنطقة : 

كيف تحفظ مصالحها في زمن لم يعد فيه أحد يتحدث عن القيم ؟

 

الرياض في قلب المشهد : 

تثبيت المعادلة وقطف ثمار اللحظة

 

بالنسبة للسعودية، لم تكن زيارة ترامب مجرد استقبال لرئيس أمريكي، بل فرصة استراتيجية لتكريس مكانتها كقوة إقليمية وشريك لا غنى عنه في معادلة واشنطن الشرق أوسطية . 

 

في ظل تراجع أدوار بعض الحلفاء التقليديين، بدا أن الرياض تتحرك بثقة لملئ الفراغ، لا كبديل، بل كمرجعية جديدة .

 

وإذ تدرك القيادة السعودية طبيعة الإدارة الأمريكية الحالية، فإنها تسعى للاستثمار الذكي في هذا الانفتاح التجاري والسياسي، لدفع مشاريعها الكبرى في البنية التحتية والتقنية والذكاء الاصطناعي، بعيداً عن تقلبات الكونغرس أو ابتزاز الديمقراطيين تحت لافتات حقوق الإنسان . 

إنها لحظة تحوّل، والرياض تُديرها بلغة الأرقام لا الشعارات .

 

واشطن تعود… 

لكن بثمن باهظ

 

بالنسبة للولايات المتحدة، تأتي زيارة ترامب كمحاولة مدروسة لترميم نفوذٍ يتآكل بهدوء لصالح بكين وموسكو . 

لكن العودة هذه المرة ليست عبر بوابة المبادئ، بل من خلال لغة المال والصفقات، على طريقة ترامب : 

الأرباح أولاً، ثم يأتي ما تبقّى .

 

غير أن هذا النهج لا يخلو من كلفة استراتيجية . 

فكل صفقة بلا قيم، تقتطع من رصيد واشنطن الأخلاقي، وتُظهر التراجع الملموس في التزامها التقليدي بدعم الحريات والتحولات الديمقراطية . 

 

وهكذا، وبين ما تكسبه باليد، وما تخسره بالمبدأ، تبدو أمريكا أقرب إلى مقاول نفوذ، لا حامل راية .

 

غياب إسرائيل… 

وعودة السعودية كوسيط

 

الغياب اللافت لإسرائيل عن جدول الجولة الخليجية قد لا يكون تفصيلاً بروتوكولياً . 

بل يعكس توتراً في العلاقة بين إدارة ترامب وتل أبيب، في ظل رفض حكومة الاحتلال الحاليّة لأي حل تفاوضي، واستمرار عدوانها في غزة . 

 

هذه الفجوة تمنح الرياض فرصة ثمينة لتعزيز موقعها كوسيط إقليمي وراعٍ محتمل لأي مبادرات سلام مستقبلية، خاصة إذا ما أُعيد تفعيل مسار التطبيع ضمن معادلة أوسع تتضمن الفلسطينيين .

 

اليمن : 

الغائب الحاضر في معادلة المصالح

 

رغم غياب اليمن عن تصريحات ترامب الرسمية في الرياض، إلا أن حضوره ظلّ كثيفاً في خلفية المشهد .

 لا بوصفه أزمة إنسانية تستحق الحسم، بل كملف مؤجَّل تُعاد صياغته بمنطق “ الربح والخسارة ”. فالتعويل على مليارات الاستثمارات قد يفتح لاحقاً باباً لإعادة الإعمار، لكن بعيداً عن أي التزام سياسي أو أخلاقي .

 

في كواليس الزيارة، بدا واضحاً أن اليمن يُدار بالصمت . 

تجاهلٌ سعودي مدروس، وتغافل أمريكي مقصود، يُحيل القضية إلى بند ثانوي في أجندة تتصدرها الصفقات، لا السلام .

 

لكن الغفلة الأخطر هي تلك التي تطمس الموقع الجيوسياسي لليمن، كمفتاح حيوي لأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب . 

من يظن أن بإمكانه بناء إستقرار إقليمي دون يمن قوي، واهم استراتيجياً .

 

إن تغييب اليمن من الطاولة لا يلغي حضوره في الميدان .

 بل يكشف حدود الرؤية، وعمق الانكشاف الأخلاقي والسياسي لدى من يفضلون الأرقام على العدالة، والصفقات على السلام .

 

الخلاصة : 

“ ترامب 2025 ” يعيد رسم الشرق الأوسط… 

واليمن في الظل

 

جاء ترامب إلى الرياض رئيساً لا مرشحاً، لكنه لم يتخلّ عن بصمته القديمة : 

صفقات مدوية، وتحالفات تُبنى على المصالح لا المبادئ. 

الزيارة لم تكن مجرّد استعراض دبلوماسي، بل لحظة مفصلية لإعادة تشكيل توازنات الشرق الأوسط، حيث الاقتصاد يتقدّم، والعدالة تتراجع .

 

السعودية بدت في موقع لاعب إقليمي، يستثمر الزمن الأمريكي لإعادة تموضعها، بينما واشنطن تراهن على شريك قادر على مجاراة تحولات الطاقة والتقنية، دون أن يرهقها بسؤال القيم أو الملفات الشائكة .

 

لكن اليمن، رغم حضوره الغائب، يكشف ما هو أعمق :

 اختزال المأساة إلى ملف أمني واقتصادي، وتجاهل متعمد لبعده الجيوسياسي الهائل . 

 

فمن يسيطر على باب المندب لا يخص الإقليم فقط، بل يمس الأمن البحري العالمي . 

 

ومع ذلك، أختار الطرفان إبقاء اليمن في الظل، انتظاراً للحظة ملائمة… أو صفقة أكبر .

 

السؤال الآن : 

هل تستطيع شراكة قائمة على منطق “ الربح أولاً ” أن تصمد في وجه أزمات تتطلب رؤية أخلاقية وشجاعة إستراتيجية ؟ وهل يمكن أن تبقى مأساة اليمن طيّ النسيان بينما تتحرك المصالح على رقعة إقليمية تتغير كل يوم؟

 

الأكيد أن زيارة ترامب 2025 لن تمرّ كغيرها ؛ إنها لحظة حاسمة ترسم شكل المنطقة لعقد قادم، لكنها لا تزال تفتقر إلى الإجابة الصعبة :

 ماذا عن الشعوب؟ 

وماذا عن اليمن الأرض والإنسان والإرث والتاريخ والحضارية ؟

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top