تحت القصف المشترك كيف تُفكّك أمريكا وإسرائيل ما تبقّى من البنية التحتية اليمنية

تحت القصف المشترك كيف تُفكّك أمريكا وإسرائيل ما تبقّى من البنية التحتية اليمنية

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

في بلد أنهكته الحرب لعقدٍ كامل، وخلّفت آلة التحالف السعودي - الإماراتي وراءها بلداً تتنفس على أنقاض، لم تُمنَح لليمن حتى فرصة لالتقاط أنفاسه . 

 

إذ سرعان ما دخلت الطائرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية على خط النار، تُجهز على ما بقي من البنية التحتية الهشة، بضربات لا تفرّق بين مدرج مطارٍ مدني ومصنع غذاء أو شاحنة وقود . 

المشهد بات مألوفاً حدّ القسوة : 

موانئ تجارية تتحول إلى مناطق أشباح، مطارات تُسحق تحت القصف وكأنها قواعد صاروخية، وطائرات مدنية جامدة تُستهدف كأنها جزء من الترسانة الحربية .

 

لم تعد الصور القادمة من اليمن تُثير الذهول، بل باتت تُثير سؤالاً أكثر فداحة : 

هل ما يحدث هو محض “ردع” كما يُقال، أم تفكيكٌ ممنهج لوطنٍ يحاول أن ينهض من تحت الركام ؟

 

السؤال الذي يطرق الأذهان بمرارة : 

هل تحوّل تدمير اليمن من نتيجة حرب إلى هدف استراتيجي بحد ذاته؟

هل ما نشهده اليوم مجرد سلسلة من العمليات العسكرية “ الضرورية ” كما تُسوّقها البيانات الغربية، أم أن اليمن بات ساحة مستباحة لتحالف غير معلن، تتقاطع فيه مصالح واشنطن وتل أبيب والرياض وأبوظبي ضمن أجندة واحدة ؟ أجندة لا تسعى فقط إلى تقويض طرف مسلح، بل إلى تمزيق بلد، ومحو ما تبقّى من ملامح السيادة والبنى الأساسية لحياةٍ مدنية . 

 

كيف نفهم هذا الإجماع الصامت على تحويل اليمن إلى نموذج للفوضى والتجويع والتفكك؟ وهل ما يجري هو صدفة جيوسياسية، أم تصميم بارد على محو اليمن من خرائط الاستقرار الإقليمي لعقود قادمة ؟

 

تكامل الأدوار : 

عندما يكمل الأمريكي والإسرائيلي ما بدأه التحالف

 

منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، ركّز التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات ضرباته على ما اعتُبر حينها “ أهدافاً عسكرية ” مرتبطة بجماعة الحوثي. 

 

لكن سرعان ما اتسعت دائرة النار لتطال المدارس والمستشفيات والموانئ والمطارات، حتى بدا أن الحرب لم تعد تميز بين مقاتل ومدني، بين منشأة حيوية ومنصة صاروخية . 

ومع دخول السنوات الأخيرة من الحرب، بات الحضور الأمريكي والإسرائيلي أكثر وضوحاً وفاعلية، لا سيما بعد اشتعال جبهة البحر الأحمر وتحولها إلى ساحة اشتباك مفتوحة .

في هذا السياق، بدت الأدوار متكاملة بشكل لافت :

 • الولايات المتحدة، تحت راية “ حماية الملاحة الدولية ”، بدأت تنفيذ غارات جوية مباشرة على منشآت يمنية لا تمت بصلة لتهديد السفن، بل تمثل عصب الحياة اليومية لليمنيين : 

موانئ، مطارات، محطات كهرباء، مخازن غذاء، وجسور تربط المدن بعضها ببعض .

 • إسرائيل، من خلف الكواليس، تضغط وتوجّه وتستهدف كل ما يمكن أن يتحول – يوماً ما – إلى بنية تهديد : 

موانئ مدنية تُرى كمنصات لوجستية، ومطارات تُصنّف كاحتمالات لإطلاق الطائرات المسيّرة أو تهريب السلاح.

 

لقد أصبحت اليمن مختبراً مفتوحاً لتجريب استراتيجيات الإخضاع، حيث يتقاسم أطراف التحالف الدولي - الإقليمي الأدوار : 

البعض يقصف، والآخر يخطط، والجميع يشترك في إدامة انهيار بلدٍ لا يملك ترف النجاة .

 

الاستهداف الممنهج : 

حين تتحوّل البنية التحتية إلى “ أهداف مشروعة ”

 

ما نشهده اليوم ليس تصعيداً عشوائياً، بل استكمالٌ دقيق ومنهجي لما بدأه التحالف منذ سنوات، ولكن هذه المرة تحت غطاءٍ أكثر انضباطاً في التنفيذ، وأكثر دهاءً في التبرير . 

 

الضربات لم تعد تُوجّه تحت ذريعة “ ردع الحوثيين ” فحسب، بل تُغلف الآن بشعارات فضفاضة كـ” حماية الملاحة ” و” أمن المنطقة ”، بينما في الواقع، تُستهدف مقدّرات اليمن التي لا تمتّ بصلة للمعركة البحرية ولا لأي تهديد مباشر .

 

لكن السؤال المفصلي يفرض نفسه : 

لماذا تُستهدف مقدرات الشعب اليمني؟

 

ما يُقصف اليوم ليس منصات إطلاق صواريخ، بل شرايين الحياة :

موانئ تغذي الأسواق، مصانع إسمنت بُنيت بشق الأنفس لتعيد إعمار ما هدمته الحروب، محطات كهرباء تمد المدن بما تبقى من نور، طائرات مدنية لا تقوى حتى على الإقلاع، ومرافق خدمية تطلب إنشاؤها عقوداً من العمل ومليارات الدولارات من خزينة تُعدّ من بين الأشد فقراً في العالم العربي .

 

هذا الاستهداف لا يبدو خطأً في التقدير، بل رسالة واضحة : 

لا مجال لليمن أن يستعيد عافيته، ولا مكان لبُنى مستقلة في جغرافيا يُراد لها أن تظل رهينة الفوضى .

 

الرسالة التي لا تخطئها العين :

 لا نريد لليمن أن ينهض

ما يجري على الأرض لا يترك مجالاً للبس :

 اليمن، حين يكون منتجاً، مستقلاً، متماسكاً، هو تهديد محتمل لمنظومة توازنات إقليمية هشّة لا تحتمل ظهور قوّة جديدة خارج السياق التقليدي للهيمنة .

 

اليمن الخارج من رحم المعاناة، والمحصّن بتجربة صمود استثنائية، يمكن أن يتحول إلى دولة فاعلة ومؤثرة على تخوم دول الطوق الجغرافي، بموارده، بموقعه، بإرثه التاريخي، وبشعبه الذي أثبت قدرته على التحمل والمواجهة .

 

لذلك، فإن استهداف بنيته التحتية اليوم لا يتعلق فقط بإضعاف جماعة أو ردع تهديد مؤقت، بل هو جزء من مشروع أكبر :

 إجهاض أي إمكانية لنهوض دولة يمنية قوية، مكتفية، ومؤثرة في معادلات الأمن والاقتصاد الإقليمي .

 

إنها محاولة متكررة لإبقاء اليمن في موقع “ الدولة المؤجلة ”، الممنوعة من استعادة سيادتها، والمطلوب منها أن تظل مجرد فراغ استراتيجي يمكن التحكم به لا التفاعل معه .

 

الجغرافيا : 

لعنة اليمن ومطمع الغزاة

 

لم يكن اليمن يوماً بلداً عادياً على خارطة المنطقة ؛ موقعه الجغرافي جعل منه جائزة كبرى ومصدر قلق دائم في آنٍ معاً . 

 

فمن يُمسك باليمن، يُمسك بمفاتيح البحر الأحمر، ويطلّ على مضيق باب المندب، ويتحكم في أحد أهم شرايين الطاقة والتجارة في العالم .

 

هذه الحقيقة الجيوسياسية لم تغب يوماً عن أعين الطامعين، لكن ما تغيّر هو الوسيلة . 

 

فبعد أن فشلت القوى الإقليمية والدولية في إخضاع اليمن عبر الحرب المباشرة أو عبر وكلاء محليين، لجأت إلى سلاح أشد فتكاً : 

تجريده من مقومات الدولة والبقاء والانتعاش .

لم يعد المطلوب كسب المعركة، بل ضمان ألا ينهض اليمن أبداً. 

فدولة يمنية مستقرة ومزدهرة في هذا الموقع الحساس تعني كسر المعادلات الراسخة، وتحوّلاً جيوسياسياً لا تريده عواصم النفوذ القديمة .

وهكذا تحوّلت جغرافيا اليمن من نعمة استراتيجية إلى لعنة تُطارد شعبه، إذ يدفع اليمنيون ثمن موقع بلادهم، لا الطامعون به .

 

لقد قام التحالف، على مدى سنوات الحرب، بتفكيك البنية التحتية الأساسية لليمن، ضربةً تلو أخرى : مطارات، طرق، محطات، موانئ، ومؤسسات حيوية أُخرجت من الخدمة، إما تحت نيران القصف أو بفعل الحصار والتجويع . 

وحين ظنّ البعض أن آلة الدمار وصلت إلى نهايتها، دخل الأمريكيون والإسرائيليون على الخط، ليُجهزوا على ما تبقّى من مفاصل الحياة التي صمدت رغم كل شيء .

 

اللافت هنا ليس فقط في حجم التدمير، بل في تزامنه، وتوزيع الأدوار، وتكرار الذريعة ذاتها : “ الأمن الإقليمي ” و” حماية الملاحة ”.

وكأن هناك قراراً دولياً غير معلن، لكنه نافذ كالسيف : “ لن نسمح لليمن أن يقف من جديد ” .

 

إنها ليست مجرد حرب، بل مشروع استنزاف طويل الأمد، يراد له أن يحرم اليمن من حقه في التعافي، وأن يبقيه على هامش الجغرافيا والتاريخ .

 

شعب محاصر بين السماء والبحر

 

ما بين نيران التحالف، وصواريخ أمريكا، وتخطيط إسرائيل، يقف الشعب اليمني مكشوف الظهر، ومحاصراً من كل اتجاه، بلا مفر ولا متنفس . 

 

ليس مجرد حصار جغرافي، بل خنقٌ شامل يستهدف كل أشكال الحياة :

 • محاصر جوياً، بعدما تحوّلت مطاراته إلى ركام، ومُنع حتى من حق السفر للعلاج أو اللجوء .

 

• محاصر بحرياً، بعد أن شُلّت موانئه الحيوية، وتوقفت حركة الشحن، وتكدست السفن المحملة بالمعونات بعيداً عن أرصفته الصامتة .

 

• محاصر اقتصادياً، بعد استهداف مصانع الغذاء والدواء ومرافق الإنتاج، وتدمير آخر ما تبقّى من قدرة على الاستيراد أو التصدير .

 

• محاصر نفسياً، إذ لم يبقَ في الأفق ما يُشبه الأمل، وبات اليأس المورد الوحيد المتاح، يُوزع على الناس كما تُوزع الطوابير على الخبز والماء .

 

هكذا أُغلق على اليمن من فوقه وتحته، من سمائه وبحره، من خبزه وأمله، في مشهد قلّ نظيره من القسوة والتجريد .

 

أين المجتمع الدولي؟ وأين الضمير الإنساني؟

 

ما يجري في اليمن اليوم ليس مجرد فصول من صراع مسلح، بل جريمة مكتملة الأركان بحق دولة ذات سيادة، تُفكك ممنهَجاً أمام أعين العالم . 

 

بمقاييس القانون الدولي، نحن أمام حالة نموذجية لتدمير متعمَّد للبنية التحتية لدولةٍ عضو في الأمم المتحدة، ولحرمان شعبٍ بأكمله من حقه في الحياة، والتنمية، والاستقرار .

 

ومع ذلك، فإن المجتمع الدولي يبدو إما غائباً بإرادته، أو شريكاً بصمته، أو مساهماً بدعمه – عبر التواطؤ السياسي أو التغطية الإعلامية أو حتى التسهيلات العسكرية .

 

تُرفع لافتات “ مكافحة التهديدات الحوثية ” لتُخفي تحتها مشروعاً أخطر : 

تفكيك اليمن وتحويله إلى دولة عاجزة، بلا مرافئ، بلا أفق، وبلا سيادة .

 

فأين الضمير الإنساني حين تُقصف المستشفيات باسم الأمن؟ وأين العدالة الدولية حين يُعاقَب شعب بأكمله لأنه صمد في وجه الخضوع ؟!

 

الخلاصة : 

اليمن لن يموت… لكنه ينزف ببطء

 

رغم الحصار الخانق، ورغم القصف الذي لا يهدأ، ورغم محاولات التجريف التي تطال كل ما ينبض بالحياة، يظل اليمن واقفاً – لا بفضل ما يملكه من سلاح، بل بفضل ما يختزنه من إرث حضاري وصمود .

 

شعبٌ لا ينكسر، لأن ذاكرته مشبعة بحكايات مقاومة الغزاة، ولأن ما بُني على أرضه بدماء الأجداد لا تمحوه طائرات ولا تحجبه صفقات .

 

ومع ذلك، فإن النزيف مستمر… 

والبلد يُستنزف شرياناً بعد آخر .

 

هنا تتجاوز المسألة حدود السياسة والجغرافيا لتصبح مسؤولية أخلاقية وإنسانية :

 

هل نواصل الصمت حتى يسقط اليمن إلى هاوية لا قاع لها ؟

 

 أم نقف اليوم، قبل الغد، لنقول : لهذا البلد الحق في الحياة، في الكرامة، في السيادة، وفي أن يُمنح فرصة للنهوض لا يُراد لها أن تأتي ؟

 

لك الله يا وطني الجريح

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top