زيد الذاري : رحيل سياسي حرّ ومثقف جريء لم يخشَ قول الحقيقة

زيد الذاري : رحيل سياسي حرّ ومثقف جريء لم يخشَ قول الحقيقة

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

 

في صباح السبت، الثالث من مايو 2025، ترجل القلم وسكن الصوت، برحيل الكاتب والمفكر السياسي اليمني زيد بن محمد يحيى الذاري، إثر جلطة دماغية مباغتة أنهت رحلته في أحد مستشفيات القاهرة .

 

لم يكن مجرد غياب جسد، بل أفول عقلٍ نادر، وصوتٍ ظل حتى اللحظة الأخيرة يهمس باسم اليمن، يوصي به، كأنه يسلّمه للأحياء أمانة في أعناقهم :

 “ البلاد أمانة في أعناقكم… أرجوكم انتبهوا لها ”.

 

لم يكن الذاري طارئاً على المشهد السياسي، ولا هاوياً للكتابة من مقاعد المتفرجين ؛ بل كان رجلاً من صلب المعاناة، تمرّس في دهاليز الفعل، وكتب بماء التجربة لا حبر الترف . 

عاش حياته منغمساً في قضايا وطنه، مشتبكاً مع الواقع لا هارباً منه، ومتمسكاً بموقفه حتى وهو يتأرجح بين جبهات السياسة وحدود المنفى .

 

برحيله، انطفأت شمعة من تلك القناديل القليلة التي ظلّت تُضيء الطريق في عتمة اليمن المعاصرة، وتُذكّر بأن الكلمة إذا صدقت، تصير فعلاً .

 وأن الموقف إذا نُذر للناس، يعيش أطول من صاحبه .

 

من صنعاء إلى القاهرة : 

سيرة تتقاطع فيها السياسة مع الضمير

 

في بلدٍ لا تمنح السياسة فيه كثيراً من فرص النجاة الأخلاقية، شقّ زيد الذاري طريقه بحذر رجل يعرف أنه يسير في حقل ألغام، لا على بساط سلطة . 

وُلد في اليمن، وتفتّح وعيه في مناخ متقلب، تتصارع فيه المشاريع والهويات، وتتمازج فيه الوطنية بالخذلان .

 

رؤية أوسع من الأطر الضيقة:

لم يَجد زيد الذاري نفسه يوماً في الخطاب المغلق أو التديّن المُسيّس .

 اقترب في شبابه من تيار الإخوان المسلمين، لكنه سرعان ما أدرك أن استخدام الدين كوسيلة للوصول إلى السلطة والسيطرة على الناس يتنافى مع جوهر الإيمان الحر وروح العمل الوطني .

 رأى في مشروعهم تقليدية متكلسة وانغلاقاً يُصادر التنوع، فانفصل عنهم مبكراً، باحثاً عن مشروع أوسع وأعمق، يُنصت إلى الناس لا يُوجّههم، ويحتكم إلى الدولة لا إلى الجماعة .

 

 ولم يكن يوماً بعيداً عن مركز الحدث ؛ ففي لحظة التحول عام 2014، كان ضمن من التفّوا حول من يسمون أنفسهم حركة انصار الله (الحوثية) بعد سيطرتها على صنعاء، مشاركاً من موقعه كمستشار سياسي في جناح المؤتمر الشعبي العام المتحالف معها في حينه .

 

لكن الذاري، الذي عرف دهاليز السلطة، لم يكن عبداً لها . 

ما لبث أن التفت إلى التصدعات، وقرأ ما وراء الشعارات، فاختار الانسحاب لا من باب الخذلان، بل من باب الوفاء لقناعاته . 

 

منفى بحجم مشروع : 

حين يصبح الرحيل بداية جديدة 

 

لم يُغادر زيد الذاري البلاد هرباً من قدر، بل سعياً إلى أفق أوسع من ضيق اللحظة، وبدل أن ينكفئ في غربته كما يفعل كثيرون، أعاد تشكيل مشروعه السياسي من جديد، لا كمنفعل على الواقع بل كمنظّر لحلوله الممكنة . 

 

هناك، في منفاه القاهري، وُلد “ ائتلاف الوئام الوطني ”، كجسر لا يُقصي أحداً، ومنصة لا تصرخ بل تدعو إلى الحوار، وإلى استعادة فكرة الدولة التي تراجعت حتى كادت تُمحى، والمصالحة التي غابت من القلوب والبرامج معاً، والثقة التي تهشّمت بين اليمنيين أنفسهم، وبينهم وبين جوارهم الإقليمي، وخاصة السعوديين .

 

كان الذاري يرى فيهم جاراً لا خصماً، وشريكاً لا وصياً، يتعامل معهم بعين التفاهم لا التبعية، وبروح الندية لا الارتهان، مؤمناً بأن المصالح المتوازنة وحدها هي التي تضمن الأمن والاستقرار للطرفين . 

لم يكن ذلك هاجساً فكرياً، بل جزءاً من رؤيته .

 

لقد حمل الذاري مشروعه من صنعاء إلى القاهرة، ومن السياسة إلى الضمير، رافضاً أن يكون شاهد زور أو مجرد رقم في قائمة المنتفعين . 

كان يرى في الدولة الممكنة حلماً يستحق النضال، وفي الحوار وسيلة لا غاية، وفي القلم مسؤولية لا ترفاً .

 

ناقد من الداخل : 

حين يصبح الولاء للحق أعلى من الانتماء

 

لم يكن زيد الذاري من أولئك الذين ينسحبون بصمت أو ينقلبون بخفة، بل ظل زمناً طويلاً في قلب المشهد، يمارس النقد من الداخل، لا كمعارض عابر، بل كمن أستوعب خطورة المسار وانحراف البوصلة . 

 

لم يتردد في أن يضع أصبعه على الجرح، حتى وإن كانت يداه لا تزالان ممسكتين بحواف المشروع الذي شارك في بنائه . 

لقد كان صوته مزعجاً لمن اعتادوا الطاعة، وصوت ضمير لمن أرهقتهم المجاملات المميتة .

 

في واحدة من أبرز مواقفه، هاجم بجرأة قرار جماعة الحوثي إلغاء تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، معتبراً ذلك القرار “ رجعياً في جوهره، سخيفاً في مبرراته، ومستهتراً في تنفيذه ”. لم يكن هذا التصريح مجرد إختلاف في الرأي، بل تمرداً على نمط تفكير مغلق، يقدّس السيطرة ويخشى التنوير . 

وقد دفع ثمن هذا الموقف – وغيره كثيراً – من علاقاته ونفوذه وموقعه، لكنه لم يتراجع، لأن ما كان يقوله لم يكن انتصاراً للذات، بل للوعي .

 

احترمته أطياف سياسية متباينة، لأنه لم يكن أسيراً لمعادلات الولاء الأعمى، ولا منخرطاً في بازارات الابتزاز السياسي . 

كان خصماً صعباً لمراكز القوى، لا لأنه حمل سلاحاً، بل لأنه حمل الحقيقة، وقالها كما هي، دون تردد، ودون انتظار تصفيق .

 

بين الفكر والسياسة : 

قلم لا يهادن ولا يساوم

 

في زمن باتت فيه الأقلام تُشترى وتُباع، ظل قلم زيد الذاري عصياً على الانحناء، نافراً من التزييف، مخلصاً للحقيقة وحدها . 

لم يكن كاتباً تقليدياً يسكن في هامش الحدث، بل مفكراً سياسياً يكتب من صميم المعاناة، ويخوض عبر كلماته معارك فكرية لا تقل ضراوة عن تلك التي تجري في الميدان .

 

عرفه اليمنيون كصوت حادّ الوضوح، لا يهادن، ولا يصطف خلف لافتات مهترئة . 

في مقالاته المنشورة في منصات رصينة، أبرزها موقع “نيوزيمن”، لم يكن يخشى التطرق إلى مناطق شائكة ومساحات محرّمة ؛ فكتب ضد فرض “الخُمس” الطائفي الذي اعتبره ضرباً لعدالة التوزيع، وفضح تناقضات المشروع الإيراني في المنطقة، وتناول إشكاليات الدولة الطائفية باعتبارها الخطر الأكبر على مفهوم المواطنة والدولة المدنية .

 

لم يكن الذاري يكتب طلباً لعدد أكبر من القرّاء، أو لكسب إعجاب جمهور مستهلك . 

بل كان يكتب ليوقظ، لا ليرضي؛ ليصوّب، لا ليهادن . 

ونتيجة لذلك، خسر تحالفات وصمتت من حوله بعض المنابر، لكن صوته لم يخفت، لأن ما كان يكتبه لم يكن صدى لرغبة آنية، بل صدى لقناعة راسخة بأن الكلمة التي لا تُكلف صاحبها شيئاً، لا تُغيّر شيئاً .

 

رجل لم يتوقف عن الحلم : 

المنفى لم يُطفئ شغف الوطن

 

في عالمٍ ينهك فيه الغُرباء وتتآكل فيه الأحلام على أرصفة المنافي، ظل زيد الذاري حالة استثنائية ؛ رجلاً تتقاطع في قلبه مرارة المنفى مع عناد الأمل . 

 

رغم المرض، ورغم ضيق الحال، ورغم شعور العزلة الذي يبتلع المنفيين في صمت، لم تنطفئ فيه شرارة الحلم بوطنٍ يتسع للجميع، وطنٍ لا يُقاس بحجم الراية المرفوعة، بل بعدالة الأرض التي يحملها الجميع على أكتافهم بالتساوي .

 

لم يكن الذاري كاتباً متقوقعاً خلف شاشة، بل ظل حاضراً في الساحة الفكرية والسياسية، مشاركاً بندوات، محللاً في برامج، ومحركاً لمبادرات لم تولد في دهاليز المصالح، بل في قلب رجل أتعبه الحنين، وأنهكته الحروب . 

 

كانت آخر مبادراته، قبل أشهر قليلة من رحيله، دعوة إلى مؤتمر يمني – يمني جامع برعاية عربية، ليس برعاية أجندة، بل برعاية ضمير .

 

لم يطلب منصباً، ولم يبع حلمه مقابل مكافأة، ولم يبحث عن كراسٍ ليجلس عليها، بل كان يسعى فقط لشيء بسيط وعظيم في آن :

 أن يتوقف نزيف وطنه، أن تعود اليمن مساحة حياة لا ميدان صراع .

 

لقد كان الذاري، حتى في لحظاته الأخيرة، ذلك اليمني الحالم الصامد، الذي يرى في كل لحظة ألم فرصة لتذكير الآخرين بأن الأوطان لا تُبنى إلا بأولئك الذين لم يتوقفوا عن الإيمان بها، حتى وهم يسقطون بصمت .

 

رحيل في زمن التيه : 

حين يُغادر العقل وتبقى الضوضاء

 

رحل زيد الذاري واليمن في أمسّ الحاجة إلى أمثاله؛ إلى صوتٍ حرّ لا يصرخ بل يُقنع، لا يحرّض بل يُفكّر، لا يُصفّق بل يُحاسب .

 جاء رحيله في لحظة خانقة، اختلطت فيها الأصوات، وتكاثر فيها المتحدثون باسم الوطن، بينما خفت صوت الوطن نفسه .

 وفي زمنٍ ساد فيه التطبيل وغابت فيه البصيرة، مثّل غيابه فراغاً نادراً لا يمكن ملؤه بالشعارات ولا بالصخب، بل بحكمة افتقدها الناس كثيراً .

 

لم يكن الذاري نجماً عابراً في فضاء الجدل، بل ضميراً حياً ظل يذكّر الجميع بما هو جوهري : 

الإنسان، الدولة، العدل، الكرامة. رحل بصمت يليق بكبار الحالمين، تاركاً خلفه رصيداً من الكلمات التي ما زالت تحرّك الماء الراكد، وتشير إلى الطريق وسط العتمة .

 

وقد نعته وزارة النقل اليمنية – حيث سبق أن شغل منصباً إدارياً في وقت سابق – ببيان صادق، وصفته فيه بأنه “ شخصية بارزة، ومثقف صاحب مواقف وطنية وإنسانية لا تُنسى ” . 

 

لكن ما لم تقله البيانات الرسمية، قالته سيرته : 

كان رجلاً لا يتبع القافلة، بل يسير ضد التيار إن شعر أن الحقيقة هناك .

 

في زمن التيه، تُصبح خسارة رجل مثل زيد الذاري ليست مجرد موت، بل نكسة للوعي .

 لكن الأمل يبقى في أن كلماته ستظل حاضرة، تُلهم من بقي، وتُذكّر من نسي، بأن اليمن لا يزال يستحق من يدافع عنه بالحكمة، لا بالرصاص .

 

إرث من الكلمات والمواقف

 

ترك الذاري خلفه إرثاً فكرياً وسياسياً مهماً، يحتاج من يستكمله، لا من يمجّده فقط . 

 

ترك دروساً في الشجاعة، ومثالاً لرجل لم يبدّل قناعاته تحت ضغط، ولم يتاجر بألمه أو غربته .

 إننا أمام نموذج نادر في اليمن الحديث : 

مثقف منخرط في السياسة، وسياسي لا يفصل بين القيم والممارسة .

 

الخلاصة : 

 

حرّ لا يُنسى… وصوت لا يُطفأ

 

لم يكن زيد الذاري قديساً ولا يدّعي العصمة، لكنه كان شيئاً نادراً في زمن الالتباس : 

كان حرّاً .

 امتلك شجاعة أن يقول “ لا ” حين يُراد منه التصفيق، وجرأة أن يكتب ما يؤمن به، لا ما يُنتظر منه .

 

لم يكن مثالياً، لكنه كان صادقاً بما يكفي ليُحدث فرقاً، وجريئاً بما يكفي ليبقى صوته حياً حتى بعد أن غاب الجسد .

 

اليوم، إذ نودّعه، لا نرثي فقط رجلاً رحل، بل نودّع مرحلة من صدق الكلمة ونقاء الموقف .

 

صوته لا يزال يتردد في ضمائر أولئك الذين يحلمون بيمن يتجاوز الحرب والطائفية والوصاية للاجنبي، يمن تسكنه العدالة لا البنادق، ويكتبه العقل لا الانفعال .

 

وفي زمن الجراح المتكاثرة، نعيد التذكير بما ظل يؤمن به الذاري حتى أنفاسه الأخيرة :

 

أن ثمة دوماً متسعاً للأمل… 

وللحق… 

وللذين لا يساومون على الوطن مهما اشتدت العتمة .

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top