شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في الرابع والعشرين من أغسطس، لا يستحضر اليمنيون تاريخاً عابراً ولا مجرد ميلاد حزب سياسي تقليدي، بل يستعيدون لحظة ميلاد مشروع وطني استثنائي أعاد تعريف معنى السياسة في اليمن، وأعاد رسم ملامح الدولة الحديثة على أسس جديدة .
لقد كان المؤتمر الشعبي العام فكرة وتطلعًا قبل أن يكون تنظيمًا سياسيًا ؛ إذ مثّل منذ لحظة التأسيس عام 1982م ولادة إطار وطني جامع، صُمّم ليعلو فوق الحسابات الضيقة، ويبتعد عن الاصطفافات الأيديولوجية المتنافرة، وليتحول إلى وعاء فكري وسياسي رحب يتسع لكل التيارات والاتجاهات .
لم يكن الهدف مجرد إنشاء حزب جديد، بل صياغة فلسفة وطنية متكاملة للعمل السياسي، تقوم على ثلاثية راسخة :
الحوار بوصفه أداة، والتوافق باعتباره منهجًا، والشراكة في صناعة المستقبل كغاية استراتيجية عليا .
لم يكن المؤتمر الشعبي العام منذ بداياته مجرد تنظيم سياسي يسعى للسلطة، بل كان فكرة جامعة ورؤية استراتيجية تسعى إلى بناء دولة حديثة تتجاوز الانقسامات الموروثة وتستجيب لطموحات الشعب اليمني في الحرية والوحدة والتنمية .
ومن هنا تكتسب ذكرى تأسيسه عمقها الرمزي ودلالتها التاريخية ؛ فهي ليست مجرد مناسبة للاحتفاء بالماضي، وإنما نافذة للتأمل في التجربة، واستخلاص الدروس، وتجديد الالتزام بالمشروع الوطني الجامع الذي جسّده المؤتمر في فكرته الأولى ومسيرته الطويلة .
ميلاد من رحم …
الحوار الوطني
حين التأم شمل النخب اليمنية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كان المشهد الوطني يتطلب أكثر من مجرد تنظيم سياسي جديد؛ كان الوطن بحاجة إلى مشروع جامع يردم الفجوات بين التيارات المتباينة، ويمنح السياسة بُعدها التوافقي العميق .
ومن هنا جاء انعقاد المؤتمر الوطني الموسع عام 1982م، الذي لم يكن اجتماعاً سياسياً عادياً، بل لحظة تأسيسية لإعادة تعريف العمل الوطني، إذ شارك فيه علماء الدين والمفكرون والمثقفون والسياسيون والوجهاء الاجتماعيون، ليضعوا معاً اللبنات الأولى لوثيقة تاريخية هي الميثاق الوطني .
لقد مثّل الميثاق الوطني أكثر من مجرد نص سياسي؛ كان بمثابة خريطة فكرية استوعبت القيم الإسلامية، واستحضرت روح العروبة، وربطت بين العدالة الاجتماعية والتعددية السياسية، لتؤسس بذلك لرؤية وطنية متوازنة تتجاوز الأحادية الضيقة وتفتح المجال أمام تنوع المجتمع اليمني .
ومن رحم هذا الحوار وُلد المؤتمر الشعبي العام، حاملاً في اسمه صفة “الشعبي” ليعكس فلسفة الشمول والانفتاح، وليتجسد كإطار مفتوح أمام كل مكوّنات المجتمع، لا كحزبٍ إقصائي مغلق، بل كـ وعاء وطني استراتيجي يُعيد تعريف العلاقة بين السياسة والشعب .
تجربة …
الحزب والدولة
لم يكن المؤتمر الشعبي العام مجرد حزب تقليدي يتعاطى مع السلطة من زاوية التنافس السياسي الضيق، بل كان مدرسة سياسية صاغت على امتداد ثلاثة عقود معالم الدولة الحديثة في اليمن .
فمنذ ولد كفكرة إلى تأسيسه عام 1982م وحتى العام 2011م، ظل المؤتمر هو القوة المحورية التي أدارت مسار الحكم ورسمت ملامح اليمن المعاصر، ليس فقط عبر أدوات الدولة، بل من خلال رؤية سياسية حاولت التوفيق بين التحديات الداخلية والتقلبات الإقليمية .
لقد كان المؤتمر الشعبي العام في جوهره حزب الدولة ومختبر التجربة الوطنية، حيث قاد ملفات استراتيجية شكّلت العمود الفقري لتاريخ اليمن الحديث :
• إدارة التحولات الاقتصادية والاجتماعية :
في بلد شديد التعقيد، متعدد البُنى الاجتماعية والمناطقية، حاول المؤتمر أن يوازن بين ضرورات التنمية ومتطلبات الاستقرار، فتبنّى سياسات إصلاحية وتنموية وضعت اليمن على عتبة تحولات لم تكن سهلة، لكنها مثلت بداية مسار نحو الدولة الحديثة .
• تجسيد الوحدة اليمنية عام 1990م : وهو الإنجاز الأبرز الذي سيظل محفورًا في التاريخ، حيث استطاع المؤتمر الشعبي العام بقيادة مؤسسه علي عبدالله صالح أن يصنع مع الأمين العام للحزب الاشتراكي علي سالم البيض شراكة تاريخية تحققت من خلالها الوحدة اليمنية، لتكون واحدة من أعظم لحظات السياسة العربية الحديثة، ليس فقط لأنها وحدت شطرين متباعدين، بل لأنها دشنت تجربة جديدة في التعايش السياسي والتعددية الوطنية .
• إرساء التعددية السياسية :
عبر دستور الوحدة، الذي لم يفتح الباب أمام التنافس الحزبي والانتخابات فحسب، بل أدخل اليمن في مرحلة جديدة من الحريات السياسية، وأسّس لثقافة ديمقراطية تعددية غير مسبوقة في المنطقة العربية، مما جعل التجربة اليمنية في تسعينيات القرن الماضي حالة فريدة تستحق الدراسة .
هكذا، لم يكن المؤتمر الشعبي العام مجرد إطار تنظيمي، بل كان مؤسسة وطنية كبرى احتضنت تجربة الدولة وأدارت مشروع الأمة، محاولاً أن يوازن بين الضرورة السياسية والحلم الوطني .
وبقدر ما حملت هذه التجربة من إنجازات فارقة، فقد شكّلت أيضاً تحدياً مستمراً في كيفية تحويل التعدد اليمني من عبء إلى مصدر قوة .
المؤتمر …
والوحدة الوطنية
يُسجَّل للمؤتمر الشعبي العام أن إنجازه الأبرز والأكثر رسوخًا في الذاكرة الوطنية هو قيادته لمسار تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990م؛ ذلك الحدث الذي لم يكن قرارًا سياسيًا عابرًا، بل تتويجًا لرؤية تاريخية حملها الحزب منذ نشأته، باعتبار أن الوحدة ليست خيارًا تكتيكيًا يُفرض بالظرفية، وإنما قدر وطني وتاريخي يتجذر في وجدان اليمنيين منذ قرون .
لقد كان المؤتمر الشعبي العام حجر الزاوية في هذا المشروع، إذ وفّر الإطار السياسي والفكري الذي جعل الوحدة ممكنة، وحوّلها من مجرد شعار إلى واقع ملموس .
وبفضل شراكته التاريخية مع الحزب الاشتراكي اليمني بقيادة المناضل علي سالم البيض، تمكّن من ترجمة الحلم الشعبي إلى دولة موحدة، لتصبح الوحدة اليمنية واحدة من أعظم إنجازات السياسة العربية الحديثة .
لكن القيمة الأعمق لهذا الإنجاز لا تكمن فقط في لحظة التوقيع أو إعلان الوحدة، بل في المشروع الوطني الذي حملته :
مشروع بناء دولة ديمقراطية تعددية، تقوم على دستور جديد يفتح الباب أمام الحريات السياسية والتنافس الحزبي، ويمنح اليمن موقعًا متقدماً في التجارب الديمقراطية الناشئة في المنطقة .
ورغم ما واجهته الوحدة لاحقًا من أزمات وصراعات وحروب، ظل المؤتمر الشعبي العام مرتبطًا بها كـ مرجعية فكرية ورؤية استراتيجية، باعتبارها قدرًا لا يمكن الانفكاك عنه، وخيارًا يعلو على كل الانقسامات .
لقد كان المؤتمر منذ لحظة التأسيس وحتى اليوم بمثابة الراعي السياسي لفكرة الوحدة، والمدافع عن استمراريتها مهما تبدلت الظروف وتغيرت الموازين .
وهكذا، فإن تجربة المؤتمر في قيادة مسار الوحدة اليمنية لم تكن مجرد إنجاز سياسي في تاريخ الدولة، بل مساهمة كبرى في إعادة صياغة هوية الأمة اليمنية، وإعلان أن اليمن قادر على تحويل الحلم التاريخي إلى واقع، حتى وإن تعثّر الطريق لاحقًا تحت وطأة الصراعات .
بين الانقسامات …
والرمزية المستمرة
مع التحولات العاصفة التي شهدها اليمن منذ العام 2011م، وجد المؤتمر الشعبي العام نفسه في قلب العاصفة السياسية، إذ أصاب بنيته التنظيمية ما أصاب الدولة نفسها من تصدعات وانقسامات .
ومع استشهاد مؤسسه وزعيمه الرئيس علي عبدالله صالح في ديسمبر 2017م، بدا المشهد وكأنه ينذر بنهاية تنظيم ارتبط لسنوات طويلة بالسلطة وبصناعة القرار الوطني .
غير أن ما أثبته الواقع اللاحق هو أن المؤتمر الشعبي العام لم يكن مجرد كيان حزبي عابر، بل تجربة سياسية كبرى عصيّة على التلاشي، ومشروع وطني أعمق من أن يُختزل في شخص أو يُقاس بمرحلة زمنية محدودة .
لقد دخل الحزب في دوامة انقسامات داخلية وتوزع بين مراكز قوى متعددة في صنعاء وعدن والقاهرة والرياض وأبوظبي، لكن ذلك لم يمسّ جوهره الرمزي، إذ ظل المؤتمر حاضرًا في المشهد السياسي بصفته ذاكرة وطنية حية ومدرسة سياسية متجذّرة صاغت معادلات الحكم لعقود، وأسّست لمفاهيم التوافق والوحدة الوطنية، وأرست أسس التعددية السياسية .
إن الحزب الذي أطلق الميثاق الوطني، وأدار الدولة اليمنية الحديثة لما يقارب ثلاثة عقود، لا يمكن أن يُختزل في خلافات آنية أو انقسامات ظرفية ؛ لأنه في جوهره يمثل إرثًا سياسيًا ممتدًا، وحالة فكرية وتنظيمية متفردة ما زالت تشكّل مرجعًا في الوعي الوطني .
فالمؤتمر الشعبي العام لم يعد مجرد “حزب” بالمعنى الكلاسيكي، بل أصبح رمزًا لتجربة وطنية، وإطارًا جامعًا يعكس طموح اليمنيين في التوافق والاستقرار، حتى وإن انقسمت هياكله التنظيمية تحت ضغط اللحظة .
إن رمزية المؤتمر تكمن في كونه وعاء جامعًا و”مدرسة توافقية” تعلّم منها اليمنيون كيف يمكن تحويل التناقضات إلى فرص، وكيف يمكن أن تتعايش التيارات المختلفة تحت سقف واحد .
ولذا، ورغم انقساماته، ظلّ المؤتمر محتفظًا بمكانته كأكبر تنظيم سياسي في تاريخ اليمن الحديث، وكسجلّ لتجربة سياسية لا تزال تُدرّس وتُستلهم في حاضر البلاد ومستقبلها .
دروس الذكرى …
ومسؤولية المستقبل
إن ذكرى تأسيس المؤتمر الشعبي العام لا يمكن أن تُختزل في مجرد احتفاء رمزي بالماضي، بل هي محطة للتأمل العميق واستخلاص الدروس الكبرى التي أفرزتها تجربة الحزب كإطار وطني جامع .
فالمؤتمر وُلد من رحم الحوار الوطني، وجسّد منذ بداياته قدرة اليمنيين على تجاوز تبايناتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية لصالح مشروع وطني مشترك .
واليمن اليوم، وهو يواجه أشد لحظات الانقسام والتشظي، أحوج ما يكون إلى استعادة تلك الروح التوافقية التي شكّلت جوهر التجربة الأولى للمؤتمر، والميثاق الوطني الذي صاغه الجميع .
لقد أثبتت التجربة أن الميثاق الوطني لم يكن مجرد وثيقة سياسية ظرفية، بل كان مرجعًا فكريًا وقيميًا سبق زمانه، إذ أرسى مبادئ العدالة الاجتماعية، وأكد على التعددية الفكرية والسياسية والديمقراطية، ورسم ملامح دولة حديثة متوازنة .
وما أحوج اليمن اليوم إلى استدعاء هذه المرجعية، لا باعتبارها نصًا تاريخيًا فحسب، بل كخيار عملي يمكن أن يُسهم في صياغة حلول وطنية جامعة تُخرج البلاد من دوامة الصراع .
وتحمل ذكرى التأسيس كذلك مسؤولية مستقبلية على عاتق الأجيال الجديدة من قيادات المؤتمر وأعضائه وأنصاره، وهي مسؤولية الحفاظ على الجوهر التوافقي للميثاق والحزب، وإعادة تعريف دوره في ظل التحولات الراهنة .
فالمؤتمر مدعو لأن يتحول مجددًا من مجرد كيان تنظيمي إلى مشروع وطني جامع يفتح الأبواب أمام مصالحة تاريخية، ويعيد بناء جسور الثقة بين مكونات المجتمع اليمني، ويمدّ خيوط الحوار نحو المستقبل .
إن الدرس الأعمق الذي تمنحه هذه الذكرى هو أن السياسة ليست ساحة للصراع الصفري والإقصاء المتبادل، بل هي فن إدارة التعددية وتحويلها إلى طاقة بناء .
والمؤتمر الشعبي العام، بما راكمه من خبرة تاريخية وما يمثله من رصيد رمزي، قادر ـ إذا ما أُعيد تفعيل روحه الأولى ـ أن يكون رافعة استراتيجية لإعادة إنتاج التوافق الوطني وصياغة مستقبل الدولة اليمنية .
الخلاصة :
اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود على لحظة التأسيس، لم يعد المؤتمر الشعبي العام مجرد حزب سياسي عابر في ذاكرة اليمنيين، بل أصبح شاهدًا حيًا على مرحلة بكاملها من التاريخ الوطني؛ مرحلة تحوّل فيها اليمن من التشرذم إلى فكرة الدولة، ومن الانقسامات إلى مشروع الوحدة .
لقد غدا المؤتمر وعاءً فكريًا وتجريبيًا لفكرة الدولة الجامعة، ورمزًا لتجربة سياسية متفردة نسجت معادلات معقدة وقدّمت دروسًا لا تُقدّر بثمن في إدارة التنوع وصياغة التوافقات وتحويل التناقضات إلى فرص للبناء .
إن القيمة الأعمق لهذه الذكرى لا تكمن في مجرد استدعاء الماضي بوصفه أرشيفًا للذاكرة، بل في قدرتها على إضاءة الطريق نحو المستقبل .
فالمؤتمر الشعبي العام، بما يمثله من تجربة تاريخية ورصيد رمزي متجذر في الوعي الوطني، يوجّه رسالة بليغة إلى الأجيال الجديدة :
أن السياسة ليست مضمارًا لصراع الغرائز على السلطة، بل مشروع وطني لبناء المستقبل، يقوم على ثلاثية متوازنة :
الانتماء الوطني كهوية، والتعددية الفكرية كمنهج، والتطلعات الحضارية كأفق لشعب عريق .
وهكذا، يظل المؤتمر الشعبي العام، رغم كل التحديات والانقسامات التي مرت به، مدرسة وطنية متجذرة وخزانًا استراتيجيًا للتجربة اليمنية في الدولة والسياسة .
وهكذا، يظل المؤتمر الشعبي العام، رغم كل التحديات والانقسامات، رمزًا للمدرسة الوطنية الراسخة وخزانًا استراتيجيًا للتجربة اليمنية في الدولة والسياسة .
إنه أكثر من حزب؛ إنه تجربة متجذرة وروح مشروع وطني يمكن استعادتها لتصبح رافعة حقيقية للتوافق ومفتاحًا لإعادة بناء الدولة الحديثة .
ففي اللحظة التي يعي فيها اليمنيون أن زمن الشتات قد ولى، يظهر المؤتمر كقوة تاريخية قادرة على تحويل الانقسامات إلى شراكات، والتحديات إلى فرص، والطموحات الوطنية إلى واقع ملموس .
0 تعليق