شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
" مسيرة استثنائية لرجل جمع بين النزاهة، الرؤية الاستراتيجية، والصمت الرصين، ليترك إرثًا خالدًا في بناء اليمن الحديث وتعزيز وحدته الوطنية "
في زمن تكثر فيه الأصوات وتتشابك الولاءات، يظل التاريخ بحاجة إلى وجوه تتجاوز الضوضاء، وتمثل جوهر الوطن وروحه الحقيقية .
من بين هذه الوجوه، يلوح أسم يحيى حسين العرشي كمنارة للثبات الوطني، ورمز للنزاهة والفكر المؤسس، وصمت راقٍ يشع احترامًا في كل مكان حلّ فيه .
مسيرته ليست مجرد سجل للمناصب التي تقلّدها، بل سلسلة من البصمات الفكرية والإنسانية والسياسية، تركت أثرًا متينًا في كل محطة من محطاته، لتصبح قدوة للأجيال القادمة في الصبر، والعمل الدؤوب، وعمق الفهم الوطني .
هنا، نتأمل حياة رجل لم يكن تابعًا للتيارات العابرة، بل صانعًا للقرارات، ومبتكرًا للمفاهيم، ومرشدًا لوعي الدولة والمجتمع، ليظل اسمه محفورًا في ذاكرة الوطن كرمز للنخبوية الحقيقية والمصداقية الفعلية .
النشأة …
والبدايات
وُلد يحيى حسين العرشي عام 1947 في قلب صنعاء العريقة، حيث تلتقي أصالة التراث اليمني مع نبض الحياة الاجتماعية والسياسية .
نشأ في بيئة عائلية مثقفة، تولي أهمية الجذور الثقافية والوعي الاجتماعي والسياسي على حد سواء، ما منحه قدرة فريدة على المزج بين التقاليد والانفتاح على الفكر الحديث .
كان جيله يحمل صدى ثورة 26 سبتمبر 1962، فترعرع العرشي في زمن كان فيه الوطن يخطو خطواته الأولى نحو بناء الدولة الحديثة .
هذه المرحلة لم تكن مجرد فترة تعليمية، بل مختبرًا لصقل شخصية استثنائية، جمعت بين التواضع والوعي، والحس الوطني العميق، والقدرة على قراءة الواقع السياسي والاجتماعي بدقة، لتصبح فيما بعد قوة متوازنة بين الرؤية الوطنية والفعل السياسي المدروس .
تنقل خلال دراسته بين مدارس صنعاء وذمار وزبيد، حيث تلقى العلم على أيدي نخبة من المعلمين الذين لم يكتفوا بتعليم المناهج، بل زرعوا في قلبه حب الوطن، روح التفكير النقدي، والالتزام بالقيم الإنسانية العليا .
هنا بدأت بذور القيادة والفكر المؤسس بالنمو، لتشكل فيما بعد مسارًا واضحًا لعطاء مستدام في خدمة الدولة والمجتمع .
البدايات …
الإدارية والاجتماعية
مع نهايات ستينيات القرن الماضي، بدأ يحيى حسين العرشي مساره المهني في مصلحة الشؤون الاجتماعية والعمل، في فترة حرجة كانت الدولة خلالها تبحث عن هويتها المؤسسية بعد سنوات من الانقسام والصراع .
لم يكن حضوره مجرد أداء للمهام الإدارية التقليدية، بل كان تجسيدًا لرؤية إصلاحية اجتماعية راسخة، ارتكزت على العدالة والمساواة، وربط التنمية بالاستقرار السياسي والاجتماعي، لتصبح رؤيته معيارًا للتعامل مع القضايا الاجتماعية المعقدة في تلك الحقبة .
في هذه المرحلة المبكرة، أدرك العرشي أن علاقة الشمال بالجنوب لا يمكن أن تبقى محصورة في السياسة فقط، بل يجب أن تتجاوزها إلى المجتمع والعمل والإنتاج .
ومن هنا بدأت بناء دبلوماسية صامتة، متفردة في فهمها لخصوصية الوطن الواحد، ومهدت لاحقًا لتفاعلاته الناجحة في مرحلة الوحدة اليمنية .
تميز العرشي بقدرته على إقامة جسور الثقة، وتوطيد العلاقات الإنسانية بين أبناء الوطن، ما جعله من بين القلائل القادرين على تجاوز الانقسامات التاريخية، وتحويل التحديات الاجتماعية والسياسية إلى فرص للتقريب والتعاون .
وهكذا، لم تكن بداياته مجرد مسار مهني، بل أساسًا لصناعة شخصية قيادية وطنية قادرة على الجمع بين الواقعية السياسية والحس الإنساني العميق، لتصبح هذه القيم لاحقًا عمادًا لمسيرته في خدمة الدولة والمجتمع .
بصمته …
في الإعلام والثقافة
مع توليه حقيبة وزارة الإعلام والثقافة أواخر السبعينيات، دخل يحيى حسين العرشي مرحلة حاسمة في مسيرته، حيث شهدت اليمن حينها تحولًا نوعيًا في الخطاب الإعلامي والثقافي .
لم يكن وزيرًا تقليديًا يكتفي بإدارة الروتين، بل اعتبر منصبه منصة استراتيجية لإعادة تشكيل وعي جماعي جديد، يعزز الانتماء الوطني ويكسر عزلة البلاد الثقافية، ويمنح المواطن فرصة للتفاعل مع قضايا وطنه بحس نقدي وبصيرة موسعة .
قاد العرشي سلسلة من المبادرات الجريئة، من بينها إعادة تشكيل وزارة الإعلام وضم الثقافة إليها بموجب مقترح منه للقيادة السياسية، دعم وكالة سبأ للأنباء، والارتقاء بمستوى صحيفة الثورة لتصبح مرجعًا إعلاميًا موحدًا، يمثل الصوت الرسمي بمصداقية وكفاءة عالية .
كما أشرف على تأسيس جمعية الصحفيين اليمنيين، كخطوة تاريخية نحو تنظيم العمل الإعلامي المستقل وتعزيز المهنية الصحفية، مما أسهم في صقل جيل جديد من الإعلاميين القادرين على مواجهة التحديات الوطنية والثقافية .
كان يؤمن بأن الإعلام والثقافة أدوات إستراتيجية لبناء الدولة الحديثة، وأن تطويرهما يمثل دعامة أساسية للوحدة الوطنية .
لقد كانت رؤيته الإعلامية والثقافية، التي جمعت بين الابتكار الإداري والحس الوطني العميق، بمثابة حجر الأساس الذي مهد لاحقًا لتعزيز الهوية الوطنية وتوطيد أركان الدولة الموحدة، لتظل مبادراته علامة فارقة في تاريخ الإعلام والثقافة اليمنية .
مهندس هادئ …
في طريق الوحدة
في عام 1984، تولى يحيى حسين العرشي منصب وزير دولة لشؤون الوحدة، في مرحلة دقيقة ومفصلية عاشتها البلاد .
لم تكن مهمة الوحدة مجرد تفاوض سياسي على الورق، بل مسار تاريخي معقد، يتطلب الحكمة، الصبر، والرؤية العميقة لفهم تحديات الشمال والجنوب، وتجاوز الصراعات المتراكمة عقودًا .
خاض العرشي خلال هذه الفترة مفاوضات شاقة مع نظرائه الجنوبيين، ملتزمًا بإرساء أسس الثقة والقيم اليمنية الأصيلة بين أبناء الشعب الواحد وتؤمة قوانين ونظم المؤسسات الحكومية .
كان يؤمن بأن الوحدة ليست توقيعًا على إتفاق وحسب، بل ضرورة وطنية حقيقية تتطلب بناء جسور متينة بين الإنسان والمؤسسة، بين التاريخ والحاضر، بين التطلعات والمبادئ .
تميز العرشي بروحه الهادئة، وقدرته الاستثنائية على الموازنة بين المبدأ والمرونة، مما جعله من القلة القادرين على تحويل الاختلافات إلى فرص للتقارب، والمواقف المتشددة إلى تفاهمات استراتيجية .
وبفضل هذه الكفاءة، ساهم بشكل فعال في تمهيد الطريق لإعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، مسجّلًا أسمه كواحد من المهندسين الصامتين لهذا الحدث التاريخي، الذي شكل علامة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، ومصدر فخر واعتزاز للأجيال القادمة .
بعد الوحدة :
رجل دولة ومسؤولية تاريخية
مع إعلان الوحدة اليمنية، لم يتراجع يحيى حسين العرشي عن دوره الوطني الفاعل، بل انتقل إلى مناصب محورية كـ نائب رئيس مجلس الوزراء وعضو المجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والاستثمار (1990–1993)، في فترة انتقالية معقدة كانت البلاد خلالها بحاجة إلى قيادات تجمع بين الخبرة الإدارية والحس الوطني العميق .
تميّز العرشي بقدرته على موازنة بناء المؤسسات الوطنية مع تجاوز إرث الانقسام التاريخي، مع السعي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بطريقة عادلة ومستدامة .
ومن أبرز إنجازاته في هذه المرحلة تأسيس الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، بهدف تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، مؤكدًا أن أي مسار تنموي لا يمكن أن ينجح إلا إذا اقترن بالعدالة المؤسسية والحوكمة الرشيدة .
ظلّ العرشي خلال هذه الفترة صوت الحكمة الوطنية، يجمع بين الانتماء للمؤسسات وحماية المصلحة العامة، ويحرص على أن تكون الوحدة اليمنية مظلة جامعة لا ميدان صراع، بل مساحة للتقارب والتعاون .
لقد جسّد نموذجًا فريدًا لرجل الدولة الذي يبني دون ضجيج، ويصنع فرقًا دون البحث عن الأضواء، ويزرع قيمًا تبقى راسخة للأجيال القادمة .
الدبلوماسي الحكيم …
ووجه اليمن في الخارج
بعد مسيرة حافلة بالمناصب الداخلية، نقل يحيى حسين العرشي خبراته الغنية إلى السلك الدبلوماسي، حيث شغل مناصب سفير اليمن في المغرب وتونس وقطر، إضافةً إلى كونه مبعوثًا رئاسياً خاصًا إلى عدد من القادة العرب والأجانب .
لم يكن مجرد سفير يحمل رسالة رسمية، بل كان رمزًا للدبلوماسية الحكيمة والرصينة، يجمع بين القدرة على تمثيل اليمن بصورة حضارية وثقة عالية، وحماية مصالح البلاد بعناية فائقة .
تميز العرشي بأسلوبه الهادئ، وقدرته الفائقة على تحويل التحديات الدولية إلى فرص للتقارب وبناء الثقة. كان جسورًا للحوار، ووجهًا يمثل اليمن بالاحترام والمصداقية بعيدًا عن الاستعراض أو المزايدات السياسية، محافظًا على سمعة بلاده وصورتها أمام العالم .
لقد شكّلت خبراته الدبلوماسية امتدادًا طبيعيًا لدوره الداخلي، حيث كانت الحكمة والمصلحة الوطنية دائمًا فوق كل اعتبار، مما جعله نموذجًا فريدًا للدبلوماسي الذي يعرف متى يتحدث، ومتى يصغي، ومتى يتحرك لصالح وطنه، محافظًا على إرث اليمن ومصداقيته على الساحة الدولية، وجاعلًا من أسمه علامة فارقة في سجل الدبلوماسية اليمنية الحديثة .
إرثه الوطني …
ومكانته التاريخية
يبقى يحيى حسين العرشي، بعد كل محطات حياته، رمزًا استثنائيًا لرجل الدولة الوطني، الذي جمع بين الحكمة، النزاهة، والقدرة على صنع الفارق بصمت وفعالية .
لقد ترك إرثًا متشابكًا بين بناء المؤسسات، تعزيز الوحدة الوطنية، تطوير الإعلام والثقافة، وتمثيل اليمن باحترافية ودبلوماسية فائقة على الصعيد الدولي .
إن مسيرته تُظهر كيف يمكن للفرد أن يكون صوت العقل والضمير الوطني، وكيف يمكن للحكمة والصبر أن يتحولا إلى أدوات استراتيجية تُسهم في استقرار الدولة ونمو المجتمع .
وفي كل منصب تقلده، كانت رسالته واحدة :
أن تكون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وأن تُبنى الجسور بدلًا من رفع الحواجز، وأن تُصان القيم قبل المصالح الضيقة .
أثر العرشي مستمر في الأجيال القادمة، ليس فقط من خلال المؤسسات التي ساهم في تأسيسها أو تطويرها، بل أيضًا من خلال القيم والمبادئ التي رسخها في ممارسة العمل العام والدبلوماسية والسياسة .
لقد أصبح أسمه مرادفًا للرجل الوطني الحكيم، وللمسؤولية التاريخية الصادقة، وللقدرة على الجمع بين المبدأ والمرونة، وهو إرث يبقى نورًا يضيء دروب الأجيال الجديدة في فهم معنى الخدمة الوطنية الحقيقية وصنع المستقبل الواعد لليمن .
مسك الختام :
يحيى العرشى…
رمز الحكمة الوطنية وإرث الأجيال
بين صفحات التاريخ، يظل يحيى حسين العرشي أكثر من مجرد شخصية سياسية أو دبلوماسية ؛ إنه رمز للحكمة الوطنية وروح المسؤولية الصادقة .
مسيرته الحافلة بالمناصب، المبادرات، والمواقف الحكيمة تشكل خريطة نموذجية لرجل الدولة الذي يضع الوطن فوق كل اعتبار .
لقد جسّد العرشي قدرة الإنسان اليمني على جمع الأصالة بالحداثة، المبادئ بالممارسة العملية، والرؤية بالتنفيذ الواقعي .
من الإعلام والثقافة، إلى الوحدة الوطنية، ثم إلى الساحة الدولية، ترك أثرًا راسخًا في كل مؤسسة وكل علاقة، وفي وعي الأجيال القادمة .
اليوم، يظل أسمه معلمًا للفكر الوطني، ومرجعًا للحكمة السياسية، ومصدر إلهام لكل من يسعى لخدمة اليمن بصدق وإخلاص .
إرثه ليس مجرد تاريخ يُقرأ، بل قيم يُحتذى بها، ومسار يُستلهم منه، ودروس تُعلّمنا أن الوطن الحقيقي يُبنى بالعمل، بالصدق، وبالوفاء للمبادئ، لا بالعمالة والارتهان للأجنبي .
إن ذكر يحيى حسين العرشي في صفحات التاريخ ليس نهايةً، بل بداية لدرس مستدام في الوطنية والقيادة الرصينة، يبقى نبراسًا لكل الأجيال القادمة في فهم معنى الالتزام بالوطن والقيادة الحكيمة التي تصنع الفرق .
0 تعليق