اليوم العالمي للعمل الإنساني :  حين تتحول القيم إلى شعارات جوفاء

اليوم العالمي للعمل الإنساني :  حين تتحول القيم إلى شعارات جوفاء

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

في اليوم العالمي للعمل الإنساني، تتلألأ العواصم الكبرى بخطاباتها المذهّبة وتتنافس المنظمات الدولية في ابتكار قاموس من الشعارات البراقة :

 “الكرامة”، “التضامن”، “الحقوق”. غير أنّ هذا الرنين الخطابي سرعان ما يتهاوى خارج جدران المؤتمرات، حيث يتكشّف التناقض الفاضح بين النصوص المزيّنة والواقع الملطّخ بالدم . 

 

هناك، على أطراف المشهد، يقف اليمنيون والفلسطينيون في غزة بوصفهم الشاهد الأبلغ على انهيار الضمير العالمي :

 أطفالٌ تتناوب عليهم المجاعة والأوبئة، مدنٌ تُحاصر حتى الاختناق، بيوتٌ تُقصف في لحظة نوم، فيما يقف العالم على شرفة البلاغة، يبارك القاتل بصمته، ويخذل الضحية بجموده .

 إنها المأساة حين تتحوّل القيم إلى شعارات، والإنسانية إلى ديكور خطابي لا يحمي جسدًا ولا يصون روحًا .

 

بين الخطاب والواقع : 

الفجوة الأخطر

 

الإنسانية التي تُرفَع اليوم كشعار أممي عابر للحدود لا تعثر على طريقها إلى صنعاء ولا إلى غزة. فبينما تضجّ المنابر الدولية بالوعود والشعارات، يُترَك ملايين اليمنيين يواجهون أشرس مجاعة في العالم المعاصر، وتُخنق غزة حتى تتحوّل إلى أكبر سجن جماعي مفتوح في التاريخ الحديث .

 

 إن هذه الفجوة بين ما يُقال في المؤتمرات وما يُعاش في الميدان ليست مجرد عجز أو قصور في الأداء الدولي، بل هي التعبير الأوضح عن بنية نظام عالمي يُعيد تعريف الإنسانية وفق معايير القوة والمصلحة، حيث تتحوّل القيم إلى عملة سياسية، وتُوزَّع الحقوق بقدر ما تقتضيه موازين السلاح والاقتصاد .

 

تسييس المعاناة : 

حين تصبح الإنسانية أداة

 

لم يعد العمل الإنساني بريئًا كما يروَّج له في الخطابات الرسمية، بل أصبح أداةً ناعمة في معارك السياسة الدولية . 

فالمساعدات تُمنَح وتُمنَع وفق خرائط النفوذ، والمنظمات تُدار كأذرع ضغط أكثر مما تُدار كجسور رحمة .

 في اليمن، تُجزّأ المعونات وتُوظّف كوسيلة ابتزاز سياسي، بينما في غزة تُشترط لقمة الخبز بتهدئة الصواريخ أو خضوع الموقف السياسي . 

 

هكذا، تُختزل الإنسانية في صكوكٍ تُوزَّع على من ينسجم مع معايير القوى الكبرى، ويُحرَم منها من يخرج عن النسق . 

إنها لحظة خطيرة، حين تتحوّل الإنسانية نفسها إلى سلعة في السوق الجيوسياسي، ويصبح الجوع أداةً للتفاوض، والمأساة ورقةً على طاولة الصفقات .

 

اليمن :

 الجوع كورقة سياسية

 

في اليمن، لم يعد الجوع نتيجةً جانبية لحربٍ مستطيلة الأمد، بل تحوّل إلى ورقة سياسية متداولة بين العواصم الكبرى والعواصم الإقليمية . 

 

التمويل الإنساني يُدار بمنطق المشروطية، حيث تُربط المساعدات بإصلاحات اقتصادية تُكرّس النفوذ الخارجي أكثر مما تخدم معاناة الداخل . 

 

نصف سكان البلاد اليوم يواجهون خطر الجوع، ومع ذلك تُدار بطونهم كما لو كانت ملفات تفاوضية .

 

 أما على الأرض، فقد تحوّلت المساعدات إلى سوق سوداء تغذّي اقتصاد الحرب بدل أن تُطفئ نيرانه، في مشهد تتداخل فيه شبكات الفساد المحلية مع تقاعس المانحين عن الرقابة، ليتحوّل الخبز إلى أداة ابتزاز، والمعونة إلى آلية ضبط سياسي، والمعاناة الإنسانية إلى لغة نفوذ عابرة للحدود .

 

غزة : 

الإنسانية تحت الحصار

 

في غزة، تُختصر الإنسانية كلها في شاحنات وقود وطرود غذائية تُقاس بالتصاريح، وتُوزَّع بميزان الحصار .

 

 أكثر من مليوني إنسان محاصرون في مساحة جغرافية ضيقة، تُدار حياتهم اليومية بقرارات عسكرية تصادر الهواء قبل الغذاء . 

 

المساعدات هنا ليست حقًا إنسانيًا، بل امتيازًا مشروطًا؛ تُمنح حين تهدأ الصواريخ، وتُمنع حين يشتد القصف أو يتصلّب الموقف السياسي .

 وهكذا يتحوّل الخبز إلى جزء من معادلة الردع، والدواء إلى أداة ابتزاز جماعي .

 

 إن مأساة غزة لا تكمن فقط في حجم القصف أو ضيق الحصار، بل في تواطؤ المجتمع الدولي الذي حوّل الإنسانية نفسها إلى لغة عقاب، وترك الأطفال والنساء والمرضى يواجهون الحصار كقدرٍ يومي لا يملك أحد حق الفكاك منه .

 

الصمت الدولي :

 شراكة غير معلنة مع الجريمة

 

الصمت الدولي ليس فراغًا عابرًا، بل هو قرار سياسي يوازي الفعل في تأثيره . 

في اليمن وغزة، تتحوّل الجرائم ضد المدنيين إلى وقائع مألوفة، يُنظر إليها كأحداث جانبية لا تستدعي مساءلة جدية .

 العواصم الكبرى التي تتحدث عن “الحقوق” و”الكرامة” تتفرّج أحيانًا على المجازر كما لو كانت مشاهد سينمائية، تاركة للضحية وحده مواجهة القصف والجوع والحصار .

 

 هذا الصمت المنهجي يشكّل شراكة ضمنية مع الجريمة، حيث يضمن التواطؤ الدولي استمرارية معاناة الملايين، ويحوّل الإنسانية إلى شعار بلا مضمون، وحقوق الإنسان إلى بند على ورقة بيانات لا أكثر . 

 

هنا، يصبح الصمت الدولي أكثر فتكا من القصف نفسه، لأنه يشرعن الظلم ويؤكد أن الجريمة لا تحتاج إلى مجرم ظاهر بقدر ما تحتاج إلى صمت عالمي مقصود .

 

في ميزان الاستراتيجية : 

من الضحية إلى الورقة

 

خطورة ما يحدث لا تقف عند حدود المعاناة المباشرة، بل تمتد إلى مستوى أعمق وأكثر خبثًا :

 تحويل الضحايا أنفسهم إلى أدوات في لعبة النفوذ الدولي . 

في اليمن، أصبحت المجاعة وسيلة لإعادة تشكيل الاقتصاد المحلي، وضبط الموانئ، والسيطرة على الموارد الحيوية، بينما في غزة يُوظف الحصار كأداة لتفريغ الأرض وإعادة هندسة التركيبة الديموغرافية .

 

 هنا لا نتحدث عن أزمات إنسانية عابرة، بل عن مشاريع استراتيجية دقيقة تُنفذ على حساب الإنسان، حيث تتحوّل حياته اليومية إلى متغير في معادلات القوى الكبرى، وحقوقه الأساسية إلى ورقة للتفاوض على الطاولات البعيدة عن معاناته .

 

الإنسانية بين الشعار والواقع :

 دروس من مأساة القرن

 

ما يعانيه اليمن وفلسطين ليس مجرد مأساة محلية، بل درس صارخ في هشاشة القيم الإنسانية حين تصطدم بمصالح القوى الكبرى .

 

 الإنسانية، حين تتحوّل إلى شعار فقط، تصبح عرضة للتوظيف السياسي والاقتصادي، وتفقد القدرة على حماية الأبرياء أو صون كرامة الانسان . 

 

مأساة القرن تُعلّمنا أن الكلمة وحدها لا تكفي، وأن الخطابات الرفيعة لا تُنقذ أطفالاً جوعى أو أسرًا محاصرة، بل تحتاج إلى إرادة حقيقية، وشفافية في توزيع المساعدات، ومساءلة صارمة لكل من يختار أن يتفرج على المعاناة بصمت . 

 

دروس هذه المآسي تؤكد أن الإنسانية ليست خيارًا يمكن تأجيله، بل مسؤولية دائمة تتجاوز الشعارات لتصبح فعلًا ملموسًا يحمي الحياة ويكرّس الحرية وشرف وقيم الإنسانية، وإلا فإن العالم سيظل شاهداً على تكرار الجرائم تحت أسماء رنانة، وفيما تبقى المأساة مستمرة على أرض الواقع .

 

الخلاصة :

 إنسانية على مقاس القوة

 

يكشف اليوم العالمي للعمل الإنساني بوضوحٍ صارخ أن القيم غالبًا ما تتحوّل إلى شعارات في يد الأقوياء، لا إلى حماية للضعفاء .

 اليمنيون والفلسطينيون يموتون يوميًا جوعًا وقصفًا، وقتلاً وخراب، بينما تتلألأ المنصات الدولية بصور التضامن والرحمة . 

 

المفارقة الأكثر إيلامًا أن الإنسانية، التي يرفع العالم شعاراتها، تُدفن يوميًا تحت أنقاض المنازل المدمرة، بينما يختار الضمير الدولي الصمت والمراقبة بدل الفعل . 

 

ملايين البشر يُتركون رهائن لسياسات القوة الباردة، وتصبح الرحمة والكرامة مجرد زخارف باهتة، بلا قوة حقيقية تحمي حياة الأطفال أو تمنح المحتاجين فرصة للعيش، لتتحول الإنسانية من وعد عالمي إلى مأساة يومية لا تنتهي .

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى