1 مايو…لحظة وفاء لليد التي تبني وتحمي وتحلم

1 مايو…لحظة وفاء لليد التي تبني وتحمي وتحلم

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

 

في عالمٍ يئنّ تحت وطأة النزاعات والأزمات المتلاحقة، وفي زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، يظل عيد العمال العالمي موعداً خالداً لا تغيب عنه المعاني العميقة، ولا تخبو فيه جذوة التقدير .

 

 إنه أكثر من مجرد تاريخ على الروزنامة، بل هو وقفة إنسانية سامية، تُرفع فيها القبعات احتراماً لتلك الأيادي التي تكدّ بصمت، وتبني بإخلاص، وتحمي أحلام الأوطان من التآكل والاندثار .

 

في هذا اليوم، تتوحد شعوب الأرض على كلمة واحدة :

 “الشكر والإنصاف”، لأولئك الذين لا تسلط عليهم الأضواء، لكن بعرقهم تنهض المدن، وبصبرهم تستمر الحياة . 

هو يوم تتجلى فيه قيم الكرامة والعدالة، وتتجدد فيه الدعوة لصون حقوق العمال وتمكينهم، ليس فقط من أدوات الإنتاج، بل من حياة آمنة وكريمة يستحقونها عن جدارة .

 

فمن الحقول إلى المصانع، ومن الموانئ إلى المدارس والمشافي، ومن وراء المكاتب إلى أعماق الورش والمناجم… 

يقف العامل رمزاً للثبات في وجه التحديات، وشاهداً حياً على أن السلام لا يُبنى بالاتفاقيات وحدها، بل بسواعد من يعملون كل يوم ليصنعوا المستقبل .

 

من شيكاغو إلى كل العواصم :

 جذور الاحتفال

 

لم يولد عيد العمال العالمي من فراغ، بل خرج من رحم المعاناة، ومن قلب صرخات العمال الذين انتفضوا ذات ربيع في شيكاغو عام 1886، مطالبين بأبسط الحقوق : 

يوم عمل لا يتجاوز ثماني ساعات . 

 

كانت المصانع في ذلك الزمن تبتلع أجساد العمال لساعات طويلة، دون حماية أو عدالة، بينما تُنتهك كرامتهم تحت وطأة الاستغلال والإهمال .

 

تلك الاحتجاجات، التي تحوّلت إلى واحدة من أكثر اللحظات احتداماً في التاريخ العمالي، لم تمرّ بهدوء؛ بل انتهت بمأساة في ساحة هايماركت، حيث اختلطت الهتافات بالرصاص، وسقط من سقط، واعتُقل من نادى بالحق .

 لكنّ ما بدا حينها وكأنه قمع لنار الغضب، كان في الحقيقة شرارةً أشعلت الوعي في كل زاوية من هذا الكوكب .

 

من تلك اللحظة، بدأ العالم يلتفت إلى قيمة العمل وكرامة العامل . 

 

ومع مرور السنوات، تحوّل الأول من مايو إلى رمز عالمي للنضال العمالي، يحتفي به الملايين من العمال والنقابيين والمدافعين عن الحقوق الاجتماعية، في الساحات والنقابات، وفي القوانين التي كُتبت بدماء وتضحيات الذين رفضوا الصمت .

 

لقد عبر هذا اليوم من شوارع شيكاغو إلى عواصم العالم كافة، ليصبح مناسبة سنوية تُذكرنا بأن العدالة ليست هبة، بل حق يُنتزع، وأن التغيير يبدأ دائماً من صوت العامل الذي يقول : 

أنا أستحق حياة أفضل .

 

صوت العمال

 

منذ ذلك اليوم الذي دوّى فيه صوت العمال في شيكاغو، تحوّل عيد العمال إلى أكثر من مجرد تاريخ يُؤرخ، بل إلى ذاكرة كفاح حيّة، تُخلَّد فيها نضالات الملايين ممن رفضوا أن يكونوا مجرد تروس صامتة في آلة الإنتاج . 

 

إنه اليوم الذي تُرفع فيه الشعارات لا لمجرد الاحتفال، بل للمطالبة المستمرة بـالعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وحق العامل في حياة لا يُساوم فيها على الأجر، ولا يُنتقص فيها من السلامة أو الحرية .

 

في هذا اليوم، تتجدد الدعوات لبيئة عمل تحترم الإنسان قبل أن تطالب بالإنتاج، ولساعات عمل لا تُرهق الجسد ولا تُطفئ الروح، ولأجور عادلة تحفظ الكرامة وتمنح الأمل، ولقوانين تكفل حق التنظيم النقابي والمشاركة في صنع القرار، في ظل مساواة حقيقية لا تعرف التمييز ولا التهميش .

 

عيد العمال هو الميعاد السنوي الذي يوقظ ضمير العالم، ويذكره بأن الحضارة لا تبنى بالأبراج الزجاجية وحدها، بل بأكفٍ سمراء متعبة، وقلوب عاملة لا تتراجع عن حقها في الإنصاف .

 

اليمن… عيد بطعم التحدي

 

في اليمن، لا يأتي عيد العمال محمولاً على أكتاف الاحتفالات كما في بقية البلدان، بل يطلّ هذا العام وسط واقع مثقل بالجراح، تراكمت فيه سنوات الحرب والفساد والانقسام والتدهور الاقتصادي، حتى أصبح العيد نفسه ترفاً لا يشعر به الكثيرون ممن أثقلهم كدّ الحياة وقلق الغد .

 

ملايين من العمال اليمنيين يعيشون على حافة الهشاشة، بين بطالة مريرة، أو أعمال مرهقة بأجور زهيدة، دون غطاء قانوني أو ضمان إجتماعي يحميهم من تقلبات السوق، وجشع بعض أرباب العمل، وتراجع الدولة عن دورها .

ورغم هذا المشهد القاسي، لم تنكسر عزيمة العامل اليمني .

 

 ظل الحرفي في ورشته، والمزارع في أرضه، والمعلم في مدرسته، والطبيب في مشفاه، والمهني في شوارع المدن وأطراف القرى، يكدحون بصبر نادر، يزرعون بذور الأمل وسط الخراب، ويُعيدون تعريف العمل لا كوسيلة عيش فحسب، بل كفعل مقاومةٍ يومية ضد اليأس، وضد الانكسار .

 

إن العامل اليمني لا يطلب المستحيل، بل الحد الأدنى من العدالة : 

أجراً يكفيه، وكرامة لا تُمس، وبيئة تحترم إنسانيته .

 وبين أنقاض الواقع، يبقى الأمل قائماً بأن يكون هذا اليوم مناسبة لتذكير الجميع – دولةً ومجتمعاً ومؤسسات – بأن إعادة بناء اليمن لا تبدأ من الطاولات السياسية وحدها، بل من إنصاف من بنوا ويبنون رغم كل شيء .

 

السلام لا يزدهر 

دون عدالة إجتماعية 

 

لا يزدهر السلام في فراغ، ولا يترسخ في أرض يُهمَّش فيها من يصنعون الحياة بأيديهم .

فالكرامة العمالية ليست تفصيلاً ثانوياً في مشروع الاستقرار، بل هي قلبه النابض وجوهره الأصيل . 

 

الاعتراف بالطبقة العاملة وتمكينها ليس ترفاً اجتماعياً، بل الخطوة الأولى نحو وطن يتّسع للجميع، ويمنح كل فرد فيه مكاناً كريماً ودوراً فاعلاً في الدولة والمجتمع .

 

بيئة العمل العادلة، والأجر المنصف، والحماية الاجتماعية، والتأمين من المخاطر ليست أمنيات، بل حقوق إنسانية أصيلة، وجدار الحماية الأول في وجه الفوضى والانهيار .

 فحين يُستنزف العامل ويُكسر، ينكسر معه العمود الفقري للاستقرار .

ولا يمكن لبذور الطمأنينة أن تنبت في أرض جُرِّدت فيها اليد العاملة من الأمان، وغُيّبت عنها العدالة، وخُنق فيها الأمل .

 

إن عيد العمال ليس فقط لحظة اعتراف وامتنان، بل أيضاً لحظة مواجهة للذات الوطنية :

هل أنصفنا من يزرع ويبني ويعلّم ويُنتج ؟

هل وضعنا العامل في قلب مشروع السلام العادل والشامل والمستدام، لا في هامش الشعارات؟

 

دعوة للإنصاف… 

ورؤية للمستقبل

 

لم يعد مقبولاً أن يمر عيد العمال كطقس موسمي، تُرفع فيه الشعارات ثم تُطوى مع خطب المناسبات .

بل يجب أن يتحوّل إلى منصة وطنية صادقة تُطرح فيها الأسئلة العميقة، وتُراجع فيها الخيارات الكبرى :

هل تُكرم قوانيننا العامل أم ترهقه؟

هل نمنحه الأمان في رزقه، والاحترام في موقعه، والفرص في مستقبله؟

وهل نفتح له أبواب التقدم، أم نُبقيه رهيناً لدائرة الحاجة والانكسار؟

 

إنها دعوة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي بين رجال الدولة والمجتمع، بين أرباب العمل وصناع الإنتاج، على قاعدة من العدالة والتكافؤ والمسؤولية المشتركة .

 

فرؤية المستقبل تبدأ من لحظة الإنصاف – من تشريعات حقيقية تضمن حقوق العمال وتُصان بها كرامتهم، من دعم الحوار البنّاء بين النقابات وأصحاب العمل، ومن تمثيل حقيقي يُشرك العمال في صياغة السياسات، لا يكتفي بسماع شكواهم بعد فوات الأوان .

 

وفي عصر تتغير فيه معايير العمل بفعل التكنولوجيا والتحولات الاقتصادية، يصبح من الملّح ترسيخ مفهوم “العمل اللائق” :

عمل يضمن الدخل الكافي، ويوفر بيئة إنسانية، ويمنح العامل فرصة للنمو لا فقط للبقاء .

 

إن الطريق إلى وطن آمن ومزدهر يبدأ من إحترام من يرفعون بنيانه كل يوم بصمت وعرق وأمل .

 

الخلاصة :

 

إلى كل عامل يقف بصبرٍ وشموخ في قلب الميدان…

إلى كل يدٍ تتسخ بالطين والحديد، لكنها تزرع الغد وتصوغ الحلم…

 

إلى من يُعلّم الأجيال، ويحمي الأرواح، ويحرّك عجلة الحياة رغم كل التحديات…

نقول لكم اليوم :

 أنتم المعنى النبيل للعمل، وأنتم صوت الكرامة في زمن الحاجة .

 

في هذا اليوم، لا نُهديكم كلمات احتفالية عابرة، بل نُجدد العهد بأن نكون إلى جانبكم، مدافعين عن حقوقكم، وحالمين معكم بوطنٍ يُنصف العرق لا يُهمله، ويصون اليد لا يُهدرها .

 

كل عام وأنتم نبض الإنتاج، وضمير العدالة، وأساس السلام الحقيقي .

 

كل عام وعمّال اليمن والعالم بخير،

وأنتم منارة البناء، ومصدر الكبرياء، وراية لا تسقط مهما اشتدّت الرياح .

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى